الحلقة الأولى
في محاورة quot;كراتيلquot;، ينسب أفلاطون إلي هيراقليطس هذه العبارة: (كل شئ يجري). quot;يقول هيراقليطس في مكان ما أن كل شئ يذهب ولا شئ يبقي في مكانه، ويقارن الأشياء بمجري الماء، حيث لا يمكن النزول مرتين إلي النهر نفسه quot;. وتبني أرسطو تفسير أفلاطون لنظرية هيراقليطس، ثم تبناه quot; ثيوفراست quot; الذي صاغه في كتابه quot; في التاريخ الطبيعي quot; ليصبح فيما بعد تفسيرا شائعا عند الذين تبعوه من الكتاب القدامي، والعهدة علي ثيوكاريس كيسيديس في كتابه: جذور المادية الديالكتيكية، هيراقليطس، ترجمة: حاتم سليمان، دار الفارابي ببيروت 1987، ص ndash; 183.
وعبارة (كل شئ يجري) اليونانية، استنتج منها تجريديا مفهوم quot;الصيرورةquot;، وهو المفهوم المحوري للحداثة الغربية وما بعدها، منذ عصر النهضة الأوروبية أو الرنيسانس وحتي كتابة هذه السطور. وهو مفهوم لا يشير إلي أجوبة جديدة بقدر ما يشير إلي نموذج جديد في التفكير يتأمل في كل شئ: الإنسان والمجتمع والتاريخ والطبيعة والدولة، وحتي (الإله) نفسه، كظاهرة تتغير بإستمرار إلي شئ جديد ومختلف، وحسب quot;ارنست رينانquot;: quot;فإن أعظم تقدم قام به الفكر الحديث هو في إحلاله فكرة quot; الصيرورة quot; محل فكرة quot; الوجود quot;، والنسبي محل المطلق، والحركة محل السكونquot;.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن معظم الباحثين قد منحوا هيراقليطس quot;أبوةquot; نظرية الحركة الشاملة، يكون من المبرر تماما استنتاج انه استعمل كلمات مثل quot;يجريquot; وquot;يتغيرquot; وquot;يتحركquot;، وأنه لأول مرة في تاريخ الفلسفة أدخلت واستخدمت بوعي مقولة quot; الحركة quot; تحديدا، كما يؤكد quot;هيجلquot;.
في مقابل هذه الفكرة التي كونها هيجل عن لغة هيراقليطس وأسلوبه، يذهب الباحث الروسي quot;أ. لوسيفquot; إلي أن السمة المميزة لأسلوب هيراقليطس تكمن بالضبط في الغياب الكامل للمصطلحات المجردة والموضوعات المجردة في مذهبه. ويؤكد لوسيف علي أن كلمات مثل quot; حركة quot; وquot; صيرورة quot; ليست من صياغة هيراقليطس، فقد نقلها أفلاطون بأسلوبه المجرد، وإن لم يستبعد أن يكون قد ربط بصورة النهر فكرته عن الحركة والصيرورة في الكون بشكل منتظم quot;.
بيد أنه سيكون من الخطأ الظن، كما يؤكد كيسيديس: أن هيراقليطس لم يستخدم إلا لغة مجردة، مثل القول أن لغته خالية تماما من الاستنتاجات والمفاهيم المجردة، وبهذا المعني فقط يمكن أن نستنتج من عبارة (كل شئ يجري) مفهوم quot; الصيرورة quot;. والشئ نفسه بالنسبة لمفهوم quot; اللوغوس quot; عنده، وهو أول مصطلح فلسفي صاغه بمهارة الفنان، لأنه ليس تجريدا محضا، أو فكرة خالية من أي عنصر ملموس، أو مادي، ذلك لأن quot; النار quot; وquot; اللوغوس quot; عند هيراقليطس (متكافئان): quot; فالنار موهوبة بالعقل، وهي المصدر الذي يسير كل شئ quot; (ش ndash; 64). وquot; الحكمة هي ما يحكم كل شئ بواسطة كل شئ quot; (ش ndash; 41).
وبكلمة أخري، تمتلك النار العقل كصفة لها، واللوغوس هو من نار، انه شعلة الكلمة، والنار المفكرة، والفكر المتقد.
وهيراقليطس هنا بعيد كل البعد عن جميع معاني كلمة quot; لوغوس quot; المعروفة والمستخدمة في تاريخ الفلسفة، كما انه بعيد تماما عن المعني الذي فهمه هيجل من لفظة quot; لوغوس quot; الهيراقليطية... تفصيل ذلك:
إذا كانت quot; النار quot; وquot; اللوغوس quot; شيئا واحدا، فذلك لأن النار وquot; الوجود quot; شئ واحد. وهيراقليطس يستخدم كلمة quot; لوغوس quot; مرادفة لكلمة quot; وجود quot; ولكلمة quot; طبيعة quot;. ان كلمة quot; لوغوس quot; ترجع إلي فعل يوناني قديم، يعني حسب أفلاطون quot; يتكلم quot;، وبذلك يكون اللوغوس هو الكلمة أو يقول أو المقال. لكن اللوغوس عند هيراقليطس غير الكلام بل عكس الكلام أساسا، انه يأخذ معناه من معني أقدم للفعل اليوناني، فقبل أن يصبح معناه quot; يتكلم quot;، كان يعني quot; يجمع quot;. فاللوغوس هو جامع الأضداد.. واتصاف الوجود باللوغوس يعني: أن الوجود جامع الأضداد، وهو ما أصله نجيب بلدي في كتابه القيم (دروس في تاريخ الفلسفة) وصدر عن دار توبقال بالمغرب عام 1987.
وعلي ذلك فاللوغوس عنده لا يدل علي شئ مختلف عن الوجود كما تصوره الرواقيون، حيث يعني quot; القوة المنظمة للعالم quot;، وهو ما أصبح يعرف عند الرومان ب quot; العقل quot;، لكنه يختلف عن اللوغوس في الفلسفة المسيحية أوquot; الكلمة quot;، حيث أن السيد المسيح هو quot; كلمة الله quot;.
ان اللوغوس عند هيراقليطس لا يدل علي سلطة كائن يتجاوز الطبيعة وينظمها من أعلي، انه ليس عقلا الهيا، أو حتي يشابه عقولنا، فعقلنا نحن مجرد مظهر من مظاهر الوجود، ويكمن المعني البعيد للوغوس في جمعه للأضداد داخل الوجود، هذا الوجود الذي يقوم في التضاد، ولا يوجد بدونه. يقول هيراقليطس: quot; إذا استمعتم إلي اللوغوس ولم تستمعوا إلي، فإن من الحكمة أن تتفقوا علي القول بأن الواحد هو الكل quot;.
بهذه الشذرة المأثورة من شذراته الباقية، بدأت صفحة جديدة في تاريخ الفلسفة والوعي الإنساني: فالواحد هو الكل هو التعبير عن طبيعة اللوغوس، واللوغوس يقول لنا كيف يكون الواحد هو الكل. ذلك انه يجمع الأضداد المتفرقة في ذاته، كما يجمع الليل والنهار، والخريف والصيف، والحرب والسلام، والموت والحياة.
واللوغوس هو وحده الذي يقدر لهذه الأضداد المتباعدة ان تجتمع فيه، وهو وحده الذي يحملها علي التجلي والظهور، فإذا استمعنا إلي ما يقوله اللوغوس، استمعنا إلي حقيقة quot; الكل quot; التي اجتمعت في quot; الواحد quot;.
وبذلك لا يوجد عالمان، الطبيعة وما بعد الطبيعة، ولا يوجد انفصال بين الصفات المحددة واللامحددة، بين المتناهي واللامتناهي، لأن quot; الواحد هو الكل quot;، quot; الواحد هو المتعدد quot;...
لكن: أليست quot; التعددية quot; جريمة؟ أو نتيجة لذنب أو خطيئة؟... السؤال لنيتشه، طبعا.