الماضي والديموقراطية
من البديهيات القول إن الشعب العراقي لا يختلف عن بقية الشعوب التي عاشت قبله تجارب النظم الديمقراطية من حيث تحمل إخفاقات وآلام مخاض البدايات. أقول: البدايات، وهي قد تطول وقد تقصر تبعا لجاهزية هذا المجتمع وذاك واستعداده لتقبل مبدأ تداول السلطة سلميا، يعني: وفقا لإرادة الناخبين. وأقول البدايات، لأنها ممضة وقد تبدو أحيانا بلا رحمة، بسبب عسرها وما تتطلبه من تضحيات، لكنها، تحمل الأمل في رحمها ولن تخون من يحترمها في المحصلة النهاية. من هنا، فلا أرى خيارا آخر سوى الديمقراطية، أمام الشعب العراقي الذي مرّ بمختبر الديكتاتورية القاتل البغيض. فمن غير الممكن أن يستبدل هذا الشعب الذي حطم بلادَه طغيانُ واستبدادُ واستهتار الحزب الواحد الأحد بحكم حزب أو تنظيم ذي طبيعة استحواذية مشابهة حتى ولو تذرع بشعارات القدسية ورجاحة العقل والبصيرة وتوسل بالماضي quot;التليدquot;. بين ماضي العرب والمسلمين وبين الحرية والديمقراطية مسافة وشرخ، ولذا ينبغي البحث عما هو ديموقراطي في أفق جديد وعما هو إنساني في روح التسامح الإسلامي وليس في سيفه.
مَنْ يتذرع بقدسية التراث لكي يحكم بلا منازع فهو متخلف أو دجال سياسة ومريد حكم، ومنْ يتذرع بالشعارات القومية والطائفية فهو بلا حس وطن وإنساني، ومنْ يتذرع بأحقية الأقلية على حساب الأكثرية بحجة أن ممثلي الأكثرية لا تعرف أن تحكم فهو مخادع وغير منصف وهدفه التحكم بالآخرين، ومنْ يتذرع بالأكثرية بدون أن يقدم الدليل القاطع على رجاحة عقله وحسن سلوكه وواقعية وإنسانية ومواطنية برنامجه فهو إما جاهل - جاهلي وإما طامع بالسلطة وهذا باعتقاده هو الطريق الأسهل للوصول إلى الحكم. وعليه فهذا وذاك وما تلاه لا ينفع الشعب العراقي النازف الذي يتطلع إلى من يعينه ويُنسيه محنته(مِحَنَهُ) السابقة والراهنة، إلى منْ يُثبت له بما لا يقبل الشك أنه يحترمه ويدافع عن مظلوميته ويخدمه ولا يسرقه في وضح النهار أويستغل مشاعره الدينية والوطنية لخدمة مآربه التي تتقاطع حتما مع ما يحلم به شعبه.
من بين الأساليب التي يتبعها اللصوص والخصوم السياسيون العراقيون ضد خصومهم في السلوك والمنهج السياسي هو خلط الأوراق بحيث لا يستطيع المواطن العادي من فرز حبة الدخن من الحنطة والشعير، وبالتالي لا يمكنه من تشخيص اللصوص والدجالين السياسيين لأنهم كثر، نظرا لاختلاط الحابل بالنابل، وهذه علامة من علامات البدايات السيئة لتطبيق الديمقراطية وإحدى معوقاتها. بقدر ما كانت بدايات الرأسمالية متوحشة فإن بدايات تطبيق الديموقراطية قد تكون متوحشة كذلك، بل حتى دموية في بعض حلقاتها.
كلما كان القادة السياسيون وطنيين وحكماء جنبوا شعبهم مزالق البدايات ومخاطرها.
على أن النظام الديموقراطي بحد ذاته له آلياته الخاصة ودورته الدموية المتجددة ومناعته الذاتية رغم خطورة بعض الأمراض التي قد تهاجمه.
لقد وصلت الحالة العراقية إلى المفارقة المضحكة التالية: أخذ اللص يشكو علنا من لصوصية الآخرين التي quot;افتعلها لهمquot; لكي يغطي على نفسه. اللصوصية وسوء الإدارة والمحسوبية والمنسوبية هي من مخلفات الأنظمة الفاسدة والمجتمعات المتخلفة التي لا ترى في تطبيق القوانين أكثر من quot;فذلكةquot; أوquot;مؤامرة خارجيةquot;.
في حالات القهر والحرمان والفساد وسوء الخدمات يصبح الإيمان quot;بنظرية المؤامرةquot; أقوى من أي وقت مضى. ويصبح التوسل بالخرافات وبالماضي شائعا وسط عامة الناس، لكنه يصير أكثر خطورة حينما يلتقطه مَنْ يمارس العمل السياسي ويبرمجه في سبيل تحقيق ما لا يستطيع الوصول إليه في الأوضاع الطبيعية. كلنا يتذكر quot;الحملة الإيمانيةquot; التي ابتدعها وتوكأ عليها في لحظات ضعفه صدام حسين، وكيف استفاد هتلر من فكرة quot;نقاء الجنس الآريquot;، وكيف وصل إلى بعض البرلمانات الأوروبية وسواها حاملو شعارات معاداة الإسلام والأجانب وهلم جرا. بعبارة أخرى أكثر وضوحا نقول: إذا اعتبر طرف أو (حزب أو تنظيم أو فئة) أنه أفضل من سواه على الإطلاق وأن من حقه فقط أن يتحكم في مصائر العباد فهذا النهج والاعتبار لهما خطيران وهدّامان حتما ولا يَمُتّان إلى الديموقراطية والدين بصلة وسيكون أصحابهما وبالا على المجتمع العراقي إن عاجلا أو آجلا. ولعل من بين المخاطر التي تواجه مصداقية الساسة العراقيين هو سعي بعض السياسيين لتسييس ما ينبغي توفيره للمجتمع من خدمات أساسية والتزامات، كالحرية والعدالة والأمن والماء الصافي والكهرباء والعمل والعيش الكريم وسواها. الشيء الغائب اليوم عن أذهان وممارسات غالبية الساسة في العراق هو حرمة الدولة وصيانتها والسعي لإعلاء شأنها. الخلط بين متطلبات الدولة والحكومة أمر غير سليم وله عواقب وخيمة على صعيد زعزعة هيبة الدولة ومستقبلها. فاحترام الدولة من احترام المواطن والعكس صحيح. لقد حصل وأن تعرضت وماتزال تتعرض الدولة العراقية لانتهاكات خطيرة سواء على صعيد السياسيين أو المواطنين وكأن سرقة وتشويه سمعة الدولة وتفكيك مؤسساتها لا أهمية له ولا يعني أحدا. لا قيمة لسياسي في العالم ولا لمواطن بدون دولة محترمة ومهيبة ينتمي إليها.

أوهام ترقى إلى الحقيقة وحقائق تصير أوهاما

من مفارقات الأوضاع العراقية الشائكة والمعقدة أنْ طفتْ على السطح وما تحته أوهام ذات نصلين وشفرتين على حد سواء: نصل يتغلغل بطيئا في خاصرة حاملها والأخرى تغور في لحم البلاد والمجتمع. من بين هذه الأوهام، تصور العراق مستقلا مائة بالمائة وأن الأميركان قد فقدوا القدرة على فعل شيء مهم داخل البلاد، لقد قويَ هذا الوهم فأصبح يرقى إلى مصافي الحقيقة لدى البعض، خصوصا بعد توقيع الإتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة الأميركية. وهذه لعمري سذاجة، ووهم ما بعده وهم. إذ كيف يمكن لمبتديء في السياسة أو لعاقل أن يتصور العراق المحتل مستقلا وهو باعتراف المحتل ذاته بأنه يحتله بناء على قرارات دولية وينوي مغادرته بمحض إرادته؟
كانت في السابق تطغى نظريتان في السياسة الدولية المتعلقة بتوسيع النفوذ والهيمنة: استخدام القوة العسكرية وإخضاع الطرف الآخر، أو اتباع طرق وأساليب غير مباشرة تبتعد عن استخدام القوة لبلوغ الأهداف المنشودة. إذا كان النهج الأول واضحا بفعل وضوح أدواته ووسائله فإن الثاني أكثر غموضا لأنه يتبع طريقي الاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا وهو من حيث التوصيف أكثر ذكاء وديمومة باعتباره يعتمد على مبدأ quot;التقارب المتبادل والمصالح المشتركةquot;. الأول لا يخفي نواياه، على الأقل في الظاهر من الأهداف، لكنه وبمجرد ارتكابه للأخطاء سيصنف في مصافي خلق المشاكل والمعوقات والفرقة وبالتالي فمن الصعب عليه آنياً أن يقنع الطرف الأضعف منه بصدق نواياه وهذا ما حصل للأميركان في العراق وللعراقيين على يد الأميركان. فبسبب فداحة أخطاء الجانب الأميركي(كتبنا عنها في وقتها في الصحافة الأجنبية) في السنوات الأولى بعد إطاحة النظام السابق أصبح النظر إليهم على أنهم بعبع وكابوس ثقيل وليس طرفا محررا كما أرادوا ذلكquot;حتى لو كانت الشعارات المعلنة ظاهرية فعلاquot;. فيما بعد، أخذ الجانب الأميركي يدرك فداحة أخطائه ولذلك راح يغير هنا ويرقع هناك لكي يقنع العراقيين بصدق نواياه. وبما أن بقاءه عسكريا مكلف ماديا وبشريا وهو بالتالي نزيف بكل المقاييس، وبما أن إقناع الشارع العراقي أمر غير ممكن إطلاقا بدون سحب قواته العسكرية، قرر الساسة الأميركيون أن ينتقلوا إلى إعطاء النهج الثاني الأولوية في التعامل مع الملف العراق. هذا الملف المعتمد على الاستثمارات في مجالات النفط والطاقة والبيئة والتسلح والاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا مما سيجعل الولايات المتحدة أكثر حضورا وتأثيرا حاضرا ومستقبلا في المشهد العراقي. هذا النهج سيخدم العراق أيضا، لأنه في أمس الحاجة للإعمار ولتطوير بنيته التحتية والخدمية والانتاجية المدمرة وعلى كافة المستويات.
كانت بعض الدول الأوروبية، في وسط وشرق أوروبا على الخصوص، متخوفة من ألمانيا التي احتلتها أو دمرتها أثناء الحرب العالمية الثانية. لكنها وبعد انبثاق الاتحاد الأوروبي أخذت تنفتح بعضها على البعض الآخر، فما الذي جرى؟ حصل، وأن دخلت الاستثمارات لهذه البلدان، وبما أن منطق السوق يقول: إن الأقوى يحتوي الأضعف منه اقتصاديا، فقد دخلت الاستثمارات الغربية، الألمانية والإنجليزية والأميركية على وجه الخصوص، فأخذت تتحكم في بعض مفاصل اقتصاديات البلدان المذكورة. إنها هيمنة من نمط آخر، هيمنة اقتصادية وإعلامية ألمانية، مثلا، في غرب بولندا!
لذا فالعراق بحاجة إلى عقلية سياسية واقتصادية مركبة تستطيع(بدون تضييع الوقت وإهدار المال العام)أن توظف موارد البلاد في الاتجاه الصحيح وأن تلعب على المتناقضات بدون الخضوع والخنوع لأحد. وعليه ففكرة خروج الأميركان كليا من العراق وهم. نعم، هم سيخرجون من العراق عسكريا، لكنهم سيبقون بصور أخرى! وهذا أمر حقيقي وطبيعي بعد الذي جرى للعراق. وبما أنهم متواجدون هنا وهناك فإنهم مؤثرون بهذا القدر أو ذاك على كافة الأصعدة وفي مقدمتها السياسية، وما على العراقيين سوى توظيف العلاقة معهم إلى أقصى ما يمكن لصالح البلاد وليس العكس.
من الأوهام العراقية الأخرى الشائعة حاليا، هي أن القوى التي لم تحقق فوزا جوهريا في الانتخابات الأخيرة تعتقد أن بإمكانها أن تركع أو تبتز القوى الأكثر حظا منها حسب معطيات صناديق الاقتراع. وإلا فكيف يمكن لمكون صغير الحجم داخل هذه الكتلة أو تلك من أن يفرض نفسه على المكون الأكبر منه داخل نفس الكتلة وأن يعرقل عقد التحالفات مع الآخرين أو بين مكونات خارج المكون الذي ينتمي إليه؟ لقد جرب كل من (زيرينوفسكي) في روسيا و(ليبَرْ) في بولندا و(يورغ حيدر) في النمسا أساليب الابتزاز السياسي وكسب الجماهير ومن بينها تسيير المظاهرات ورفع المناجل والمساحي والهراوات وقطع الطرقات ورفع الشعارات الرنانة في الشوارع لكنهم باءوا بالفشل في المحصلة النهائية، لأن النظم الديمقراطية لا تؤمن بالأساليب غير السلمية لاستلام السلطة. لقد فشل عدد غير قليل من الساسة الأوروبيين في بلوغ مبتغاهم لأنهم مارسوا أسلوب المؤامرة والخداع والتضليل واتهام الآخرين بالباطل. وتمتليء الساحة العربية بأمثال هؤلاء النصابين ومغتصبي السلطة. لا يمكن للعراق بعد هذه التضحيات الجسيمة أن يعود إلى فلك استعباد الآخرين من خلال اتباع سياسة المزايدات والتدليس والنفاق السياسي والوقاحة ورفع الشعارات الزائفة.
الوهم الآخر الشائع، هو سعي بعض الساسة العراقيين لإقناع الآخرين بأن من الصعب قيام حكومة وطنية عراقية قوية مستقلة، لأن الآخرين لا يريدون ذلك للعراقيين! وquot;الآخرونquot; بطبيعة الحال هم من دول الجوار وسواهم. وما يدحض هذا الوهم في الوقت الراهن هو أن هناك إمكانية واقعية لتشكيل حكومة شراكة وطنية يكون أساسها قوتان برلمانيتان بحكم ما يمكن أن تشكلاه من أكثرية داخل البرلمان والشارع العراقي. ولقد قلت في مقالة سابقة: إن هاتين القوتين هما: إما الائتلاف الوطني (دولة القانون والائتلاف الوطني الموحد - سابقا) والعراقية، أو ائتلاف دولة القانون والقائمة العراقية، وبتصوري فإن العراقية ودولة القانون هما الأوفر حظا والأكثر تقبلا لدى الشارع العراقي والأصلح لمستقبل العملية السياسية في البلاد.
على كل قائمة وقوة سياسية عراقية ذات وزن، في المرحلة الراهنة، أن تقدم بعض التنازلات لتطمئن خوف وقلق قطاعات وفئات المجتمع العراقي التي تعرضت إلى مظلومية كبيرة من قبل النظام السابق وهذا التطمين الفعلي سيقي العملية السياسية من مخاطر الانحراف أو الإنزلاق والعودة إلى نقطة البداية.
في خضم الفوضى العارمة التي حلت بالعراق والعراقيين، أصبحت البلاد عرضة لحضور إرادات خارجية في الساحة العراقية. يتمثل هذا الحضور عبر قوى مناصرة داخليا لهذه الجهة الخارجية أو تلك أو لحضور مخابراتي أجنبي أو لكلا العاملين معا. هذه حقيقة لا لبس فيها ومن أجل طمس هذه الحقيقة أو التقليل من عواقبها الوخيمة على استقلال القرار السياسي والاقتصادي العراقي حاضرا ومستقبلا يحاول البعض أن يقلل من حجم هذه الظاهرة وتسويقها جماهيريا على أنها وهم ومبالغة وهي ليست بوهم ولا مبالغة!
ثمة وهم آخر خطير ألا وهو التصور بأن تشكيل الحكومة المقبلة أكثر تعقيدا من مواجهة ركام المشاكل الاقتصادية والخدمية والاجتماعية والنفسية الهائلة في العراق والتي تتطلب حلولا سليمة وبدون تأجيل، وبالتالي ستسقط كل حكومة مقبلة تستهين بمعالجة هذه الأمور التي أصبحت مآسي تتحكم برقاب أبناء الشعب. الوهم الآخر الأكثر فتكا يتمثل باستقطاب الناخبين عبر التوسل بإقامة الندب والنواح واللطم وإحياء المناسبات الدينية بشكل مبالغ فيه بحيث لا يكاد يمر أسبوعان أو ثلاثة دون مناسبة دينية تذكر. أقول: إن تجارب النظم الديموقراطية مجتمعة تشير إلى عزوف الناس تدريجيا عمن يستغل الدين لأغراض الكسب السياسي والطائفي. كل شيء عليه أن يجري بحدود المعقول والمقبول وبعكس ذلك سيرتد وبالا على أصحاب هذه الدعوات. وأعتقد أننا لمسنا عمليا مثل هذا الارتداد على صعيد الناخبين. مثلما تعطش الناس في سنوات منعهم عن أداء طقوسهم في الماضي قد يبتعدون عنها في زمن الانفراج حينما يشعرون بأن ثمة من يستغل مشاعرهم الدينية والإنسانية لأغراض الأدلجة والكسب السياسي.