هناك خطأ قاتل نلمسه في أدبياتنا الإسلامية حين تتحدث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسيرته فتصور هذه الأدبيات النبي محمداً وكأنه فوق البشر وأن سيرته هي إلى الملائكية أقرب منها إلى البشرية، فتجدها تبالغ في رسم صورة مثالية لحياته لا تكاد تلمس فيها أي أثر لبشريته..
أصحاب هذه الصورة يتعاملون مع حياة النبي بأنها سلسلة متصلة من المعجزات والخوارق، فلا يرون فيها إلا تفجر الماء من أصابعه الشريفة وانشقاق القمر ونطق الجماد، ويتصورون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان محاطاً بهالة نورانية تميزه عن البشر، وأن جبريل يتنزل عليه غدواً وعشياً ليوجهه في كل خطوة صغيرة وكبيرة، مع أن التأمل الموضوعي للسيرة يظهر بأن المعجزات لم تأخذ سوى الحيز الضيق منها..
خطورة هذه النظرة المغالية أنها تحرف معنى النبوة، ولا تترك مجالاً للعقل العلمي ليفهمها فهماً سننياً ضمن قوانين التاريخ والنفس والاجتماع، وتعزز العقلية الخوارقية، كما أن هذه النظرة تصعب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وتلغي فاعلية سيرته، فما دامت الصورة الذهنية عنه بأنه موجه في كل صغيرة وكبيرة من جبريل فسيتحجج الناس بذلك ويجدون مبرراً للخطأ، ويقولون لقد كان نبياً معصوماً أما نحن فبشر نقع في الخطأ مما يقلل من الأثر العملي المستفاد في واقعنا من حياته وتصبح مطالعتنا لسيرته للتبرك أكثر من كونها لاستقاء دروس عملية..
هذا الضرر ليس متوهماً بل نلمسه كثيراً في حياتنا. فحين تخبر أحد الناس بموقف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتطالبه بالتأسي بذلك الموقف يرد عليك بالقول: هذا الرسول وليس أنا..فهو قد ترسخت لديه نظرة بأن للرسول في حياته شأن لن نستطيع نحن أن ندركه في حياتنا.
يبدأ الخلل في هذه النظرة المغالية غير المتوازنة من أن الناس يحبون الرسول فيدفعهم هذا الحب إلى تصويره بأنه كان متعالياً محلقاً في السماء، وأنه لم يكن يعتريه أي ضعف أو قصور..ورغم حسن نية من يفعل ذلك فإن هذه الطريقة تقود إلى نتائج سلبية لأن الناس لا تستطيع التأسي بمن هو فوق البشر quot;قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم ملكاً رسولاًquot;، والناس تميل إلى التأسي بمن ترى أنه قريب من حياتها، ولنا مثال في واقعنا أن أكثر الزعماء شعبيةً هم أقربهم إلى بشرية الناس، أولئك الذين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، حتى أنه إذا أراد زعيم أن يعلي أسهمه الانتخابية فإنه يوحي إلى وسائل الإعلام الداعمة له بأن تظهر صوره في مجلس عائلي وهو يمازح أطفاله ويتناول الطعام مع زوجته، أو وهو يمارس الرياضة، فإذا رأى الناس تلك الصور تذكروا أن هذا الزعيم واحد منهم يعيش مثل حياتهم فيتعاطفون معه..
على عكس الصورة التي ترتسم في أذهاننا عن اختلاف النبي محمد عن البشر نجد القرآن يركز على بشريته، ويسعى لإبرازها بشكل مكثف، ولو عقدنا مقارنةً بين الآيات التي تخضع محمداً للسنن التي تنطبق على سائر البشر، وبين تلك الآيات التي تبرز تميز محمد لوجدنا أن المساحة الأكبر تركز على بشرية محمد.. فمحمد في القرآن هو بشر مثلنا لا يعلم الغيب، وليس له من الأمر شيء، ولا يدري ما يفعل به ولا بقومه،ولا يستطيع أن يشفع لأحد إلا بإذن الله، ولا يهدي من أحب، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، بل يتوعده القرآن بالعذاب المضاعف إن أشرك مع الله شيئاً..
يتميز النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن البشر العاديين بالوحي الإلهي، ومع ذلك فإن القرآن حرص على إبقاء مسافة فاصلة بين البشر الرسول وبين الوحي الإلهي الذي يتنزل على قلبه حتى لا ينتج الخلط عند الناس بين الإلهي والبشري فتجد آيات تبرز هذه المسافة الفاصلة مثل آية الإسراء quot;ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليكquot; ، والآية quot;وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليquot;..
ترتسم في أذهاننا صورة آلية لعلاقة الوحي بالنبي فنتخيل بأنه ما إن تستجد حادثة أو يوجه سؤال للنبي أو يتعرض لمأزق إلا ويتنزل الوحي مسرعاً ليقدم الحلول الجاهزة القاطعة، والحقيقة خلاف هذا التصور البسيط، فكما أن حياة محمد كانت فترةً لتنزل الوحي إلا أنه كان فيها أيضاً جانب التجربة البشرية الكاملة بكل تفاصيلها ومتاعبها وجهادها، وكثيراً ما كان الوحي يتمهل طويلاً دون أن ينزل بالإجابة والنبي كأي بشر يجتهد ويبذل قصارى جهده ويقلب وجهه في السماء دون أن يجد جواباً شافياً.
إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتريها كل ما يعتري حياة البشر، ففيها الانتصارات والانكسارات، وفيها الفرح والحزن، وفيها التعب والسهر، وفيها القلق والخوف، وكما كان فيها بدر وفتح مكة ففيها أحد وحنين..
في رحلة الطائف تبرز المخاوف البشرية في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم في خوفه من شماتة قريش منه حين يعلمون بخبر فشل رحلته إلى الطائف فيطلب من الطائف ألا يجرئوا عليه قريش وأن يكتموا خبر مجيئه إليهم..
وحين كانت قريش تطالب النبي بقائمة من المعجزات حتى تؤمن له كأن ينزل عليه كنز أو يكون معه ملك أو يرقى في السماء أو يكون له جنة تفجر الأنهار خلالها تفجيرها، كان يود لو أنه يستطيع أن يأتيهم بالآيات التي يؤلف بها قلوبهم ولكنه لم يكن يملكها quot;قل إنما الآيات عند اللهquot;، ولم يكن يستطيع أن يجيبهم بأكثر من قوله: quot;سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاًquot;..
واللافت أن هذه الآيات جاءت في سورة الإسراء التي تحدثنا عن أعلى درجة يمكن أن يبلغها بشر وهي التي بلغها النبي ليلة المعراج، فكان لا بد بعد هذا الارتقاء في معارج العلا من جرعة توازنية تعيدنا إلى الوسط المعتدل حتى لا تكون المغالاة وننسى بشرية النبي كما كان الشأن مع عيسى عليه السلام، فحفلت هذه السورة بإشارات متتابعة إلى عبودية النبي quot;أسرى بعبدهquot;، وبشريته quot;بشراً رسولاًquot;، بل وتحذيره بأنه غير مستثنى من العذاب إن عدل عن المنهج الإلهي quot;فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراًquot;، quot;إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف المماتquot;.
ولو أن الوحي كان يتنزل على النبي وفق هواه أو بمجرد دعائه لأسرع إليه في أشد اللحظات حرجاً في حياته، لكن القرآن يبرز لنا تعالي الوحي عن البشر، حتى وإن كان ذلك البشر هو خيرهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
لعل أوضح مثال على ذلك هو حادثة الإفك، تلك الحادثة التي زلزلت بيت النبوة من الداخل ووضعته في أحرج موقف في حياته وظل الناس شهراً كاملاً وهم يلوكون بألسنتهم العرض الشريف والنبي صلى الله عليه وسلم حائر يقلب وجهه في السماء لا يملك أن يفعل إلا كما يفعل أي بشر في مثل هذا الموقف العصيب، فيستشير حبه أسامة فيقول له:هم أهلك وما علمت عليهم إلا خيراً، ويستشير علياً ابن عمه علي فيقول له: لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، ويسأل عنها الخادمة فتدافع عنها، ويخرج بعدها إلى الناس ويقف على المنبر ويقول للناس: من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، ويكاد الأوس والخزرج يقتتلان في المسجد..كل هذه الزلزلة العظيمة التي تستمر شهراً كاملاً ولا يتدخل الوحي، حتى إذا أخذت التفاعلات البشرية مداها واستيئس الرسل نزل الوحي ليضع منهجاً عاماً للتعامل مع مثل هذه القضية متعالياً على التفاصيل الظرفية الوقتية ، فإذا حدثت مثل هذه الحادثة مستقبلاً لا تكون هناك حاجة لنزول الوحي مرةً أخرى، وكأن القرآن في هذا الانقطاع الطويل يهيئ الناس للاعتماد على أنفسهم.

[email protected]