في عام 2010 أعلنت لورين بوث الصحافية وناشطة حقوق الإنسان البريطانية، والأخت غير الشقيقة لزوجة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير إسلامها..
أثار إعلان بوث إسلامها عاصفةً من الانتقادات في بريطانيا والغرب، مما دفعها إلى كتابة مقالة في صحيفة quot;غارديانquot; بعنوان quot;الآن وقد صرت مسلمة.. لِمَ كل هذا الفزع والصدمة؟quot;
تشرح لورين في رسالتها أسباب تحولها إلى الإسلام، فتتحدث بدايةً عن الصورة القاتمة التي كانت تحملها عن المرأة في الإسلام، وكيف تغيرت هذه الصورة بعد زيارتها لقطاع غزة والضفة الغربية..تقول لورين: quot;توجهت إلى هناك وأنا أحمل مفاهيم المرأة الغربية المتحررة الميسورة عن quot;المسلمات الفقيرات الصامتات الملفوفات بعباءات سوداءquot; وكنت أتوقع أن يكون عملي مع الرجال فقط. أليست هذه هي صورة المجتمعات المسلمة في الغربquot;؟
لكنها تعاملت مع نساء أيضاً من كل الأعمار وبكل أنواع الحجاب أيضاً..تقول: quot;صدقوا أو لا تصدقوا أن المسلمات يمكن أن يكنّ متعلمات عاملات بجهد مثلنا.. ونعم فإن بعضهن يأمرن أزواجهن بالتوجه إلى المطبخ لإعداد العشاء. هل يكفيكم هذاquot;؟
تحلت لورين بوث بالإنصاف حين فرقت بين دين الإسلام وثقافة المسلمين، فالتعامل السيء لفريق من المسلمين مع المرأة لا ينبع من دينهم بل من ثقافتهم، تقول بوث: إن مجتمعات إسلامية وغير إسلامية يمكن أن تسيء معاملة النساء، quot;لكن هذا يتم على يد الأقارب الذكور وليس على يد الخالقquot;. وتضيف أن القوانين في الدول الإسلامية تنبع بشكل أو آخر من تعاليم الإسلام الأولى. لكن الممارسات تنبع من الثقافات وليس الدين.
لفتت طبيعة الصلاة الإسلامية نظر لورين بوث إلى أن الإسلام هو دين المحبة والسلام فهذه الصلاة تبدأ بعبارة quot;بسم الله الرحمن الرحيمquot; وتنتهي بعبارة quot;السلام عليكم ورحمة الله وبركاتهquot;.
وتقول بوث عن لحظة التحول: quot;شعرت بما يشعر به المسلم في صلاته: صاعقة من التناغم الحلو ورعشة من الفرح الصافي بكل شيء أملكه، مثل أطفالي، وأمن في اليقين أنني لست بحاجة للمزيد من أجل نيلي الرضاء.quot;
وتختم قائلةً: quot;لقد تكشفت لي الكذبة التي تغلّف أزمنتنا الحديثة هذه: أن المادية والاستهلاكية والجنس والمخدرات ستضمن لنا السعادة الأبدية. وعندما نظرت إلى ما وراء الغلاف رأيت عالما طرباً قائماً على المحبة والسلام والأمل. وفي غضون كل هذا فإنني أعيش حياتي اليومية بشكل عادي: أطبخ الأكل لأسرتي وأعد البرامج التلفزيونية عن الفلسطينيين، ونعم، أخصص نصف الساعة كل يوم للصلاةquot;.

********
حادثة إسلام لورين بوث ليست فريدةً ، بل هي مثال على ظاهرة آخذة في التزايد في المجتمعات الغربية، وتشير إحصائيات إلى دخول عشرات الآلاف في الإسلام سنوياً..لكن الكمية ليست وحدها الجديرة بالتأمل، بل نوعية هؤلاء الداخلين في الإسلام ودوافعهم، فأكثرهم ينتهي إلى الإسلام بعد رحلة طويلة من البحث والتأمل والحيرة والقلق الوجودي، وهو ما يعني أنه اعتنق الإسلام بعد أن وجد فيه طمأنينةً قلبيةً وإشباعاً روحياً، وليس تحت تأثير الضائقة الاقتصادية والاجتماعية كما هي دوافع أكثر المسلمين الذين يتحولون نحو المسيحية في الدول النامية حيث الجهل والفقر والمرض..
يلفت النظر أيضاً في هذه الظاهرة أن التحول الديني إلى الإسلام يحدث رغم ما تمثله الحضارة الغربية من بريق وإغراء، ورغم ما يلقيه واقع المسلمين في المقابل من ظلال سلبية، وما يمثله من عامل تنفير، فحين يدخل الضعيف في دين القوي، أو يدخل الجاهل في دين المتعلم، أو يدخل المتأخرون عن الحضارة في دين أهل الحضارة والتقدم فليس في هذا ما يستغرب لأن طبيعة الناس اتباع القوي وهو ما حدث مع ملكة سبأ حين رأت مظاهر التقدم الحضاري في مملكة سليمان متمثلةً في الصرح الممرد من قوارير الذي حسبته لجةً فلما تبينت لها قوة سليمان لم يسعها إلا اتباعه: quot;أسلمت مع سليمانquot;، وكما توضح سورة النصر العلاقة بين الانتصار وبين دخول الناس أفواجاً في الدين quot;إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاًquot;..
إذاً حين يدخل بعض المسلمين في هذا الزمان إلى المسيحية فهذا مما تقتضيه طبيعة نفوس البشر الضعيفة في فترات الهزيمة الحضارية وليس له قيمة موضوعية كبيرة تتعلق بمحتوى الإسلام أو المسيحية، لكن حين يجد إنسان نشأ في ظل الحضارة والتقدم والرفاهية في بلاد الفقر والضعف ما يجذبه إلى دينهم، فهذا هو الأمر غير العادي الذي لم يكن ليحدث لولا أن هذا الإنسان يعاني فراغاً لم تملئه كل ألوان الرفاهية التي توفرها له حضارته، ولولا أنه وجد في الإسلام سراً عميقاً حقق له الرضا، فلم يخفف من انجذابه إليه كل ما يراه في واقع المسلمين من مظاهر سلبية..
لقد وجدت لورين بوث في هذا الدين من العمق الروحي والإقناع العقلي ما جذبها إليه رغم كل ما يحمله واقع أتباعه من ضعف وتشرذم وتأخر حضاري..
ينبهنا إسلام هؤلاء إلى أن الإسلام دين فطري وأنه يحمل من القوة الذاتية ما يمكنه من الانتشار بمعزل عن واقع المسلمين المتردي..
لقد نشأ هؤلاء الغربيون من أمثال لورين بوث وصديقتها إيفون ريدلي-التي أسلمت بعد خروجها من سجون طالبان ودراستها القرآن-في ظل أجواء الحرية المقدسة، وامتلكوا فرصاً متساويةً للتعرف على مختلف الأفكار والفلسفات-وهذا من محاسن الحضارة الغربية- فكان أن انتهوا إلى الاستجابة لنداء الفطرة المنبعث من أعماقهم..
إسلام هؤلاء يقدم لنا البرهان على أنه لا خشية على الإسلام من أجواء الحرية والانفتاح، فهذه الأجواء تخدم الحق ولا تهدده، والوضع المثالي ليعرف الناس الحق هو أن تتوفر فرص متكافئة ليعرض الجميع بضاعتهم ليقارن الناس بينها ويختاروا أجودها، وحين يكون الإنسان صادقاً مع نفسه فإنه لن يختار إلا ما ينسجم مع فطرته السليمة..
لا يوجد ما يبرر خوف بعض المسلمين على دينهم من التأثر بالأفكار المنحرفة، ودعوتهم للحيلولة دون انفتاح شبابنا على الثقافات والآراء الأخرى بحجة حمايتهم من الافتتان بالأفكار الضالة..فالإسلام قوي ولا خشية عليه، لكن الخشية هي على أوهامنا التي ألصقناها بديننا عبر تاريخنا حتى ظننا أنها من عند الله وما هي من عند الله، فهذه الأوهام هي التي تسقط في أجواء الانفتاح والتعارف غير مأسوف عليها، أما الدين المتين فإنه يبقى ويقوى، وحين نخشى على أنفسنا من أجواء الحرية والانفتاح فإننا نسيء إلى ديننا ولا نحميه، لأننا نظهره ضعيفاً عاجزاً عن النزال في ميادين المواجهة الفكرية..
مما يسترعي الانتباه في قصة لورين بوث أنها كانت صادقةً مع نفسها منذ البداية، ولم يكن اعتناقها للإسلام سوى تتويج لرحلة طويلة من هذا الصدق مع الذات، فقد كانت مبدئيةً في حياتها ترفض التلوث بوسخ السياسة، وكانت على عداء شديد مع زوج أختها توني بلير بسبب ممارساته السياسية اللا أخلاقية، وانتقدت بشدة غزو العراق، وتضامنت مع أهل غزة في حصارهم الظالم وهو ما لم يفعله كثير من المسلمين بالوراثة، فركبت البحار وواجهت الأخطار في سبيل أن تصل إلى غزة وتعلن رفضها للظلم.. وأخيراً توجت مسيرة صدقها مع نفسها وتصالحها مع فطرتها بالاستجابة للنداء العميق المنبعث من داخلها...
إن الوصول إلى حالة الإسلام يبدو نتيجةً حتميةً لكل امرئ يختار طريق الصدق مع نفسه منذ البداية، فحالة الصدق مع النفس تفرض على صاحبها سلوك مسارات محددةً وتضيق أمامه الخيارات الأخرى، ويظل متتبعاً للنداءات التي تنبعث من داخله حتى يجد نفسه أخيراً أمام استحقاق بتحول نوعي في حياته يفرضه عليه صدقه مع نفسه.
زارت لورين بوث قطاع غزة مرات عديدةً، وشاركت في مسيرة القدس العالمية في الثلاثين من الشهر الماضي، كما تعتزم المشاركة في اليوم العالمي لنصرة الأسير الفلسطيني في السابع عشر من الشهر الجاري، وبذلك تثبت لورين بوث أن الإسلام ليس مجرد مظهر في اللباس أو الأسماء أو الطقوس التعبدية يرثها الإنسان كما يرث لون بشرته وعينيه، بل إن الإسلام هو فاعلية في الحياة، وحركة وإيجابية، وهو قبل ذلك الصدق مع الذات، وقوة الشخصية في مواجهة تيار المجتمع، والانتصار للعدالة والإنسانية في أي بقعة من الأرض..
والله أعلم..
[email protected]