أكثر من ثلث اليهود في إسرائيل يعتبرون إسرائيل دولة يهودية لا ديمقراطية، في حين يعتبر 75% منهم إسرائيل دولة quot;يهودية ديمقراطيةquot;، في حين يفضل 29% من اليهود تعريف إسرائيل بـquot;ديمقراطية.quot;.

هذا ما يتضح من الاستطلاع الذي أعده المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، وقدمه في السادس من الشهر الجاري، رئيس المعهد د. أريك كرمون إلى الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس، الذي عقب بدوره قائلا: إنّه quot;منزعج جدا من علاقة الإسرائيليين بالديمقراطية، ومن التوتر بين الغالبية اليهودية والأقلية العربية. vهذا الاستطلاع يؤكد ما دأب على قوله عدد من المؤرخين الإسرائيليين الجدد، ومنهم البروفيسور أمنون راز كركوتسكين الذي رأى quot;أن الوعي الصهيوني عالق في مجال quot;المسيحيةquot; وهو ليس قومويا بالمعنى الاعتيادي؛ لأنه يعتمد على الدين، لذلك لا يبقي مكانا للبلاد كقيمة مستقلة. فلسطين هي بلاد مقدسة وليست وطناquot;.
ثم هو يقول في مقابلة نشرتها مجلة الكرمل العدد 58 quot; ماذا تعني عودة الشعب اليهودي إلى بلادهquot; ؟ إذا تحدثت عن quot; العودة إلى ما كان مرةquot; فإنك تتحدث بمصطلحات دينية. لا يمكنك تجاهل ذلك. نحن إزاء كوللكتيف ديني. العلمانيون يقولون إنهم لا يقبلون الشريعة اليهودية، أي أنهم يرفضون القانون الديني اليهودي. لكنهم يبقون في إطار هذه الصورة.
ومن قبل كان آحاد هعام، مؤسس الصهيونية الثقافية، - كما يبين الباحث الفلسطيني، حسن خضر- علمانيا في التحليل الأخير. ومع ذلك لم يعجبه موقف ممثلي الجيل الشاب من الديانة والتاريخ اليهوديين. ولم يعجبه بشكل خاص انفصال مثقفين صهاينة من أمثال يوسف حاييم برينر وبريد تشفسكي عن التقاليد اليهودية وتاريخ اليهود بشكل مطلق، وإصرارهم على العيش في الحاضر دون الاعتراف بقدر من الاستمرارية يربط الماضي اليهودي بالحاضر والمستقبل.
وقد نجم امتعاض هعام من جيل الشباب عن نظرته إلى الديانة اليهودية باعتبارها العامل الرئيس في بقاء اليهود على مر العصور، وهي حقيقة تقتضي الاعتراف بمركزية الإله اليهودي حتى من جانب الملحدين اليهود؛ لأنه القوة التاريخية التي أعطت الحياة لشعبنا وطبعت شخصيته الروحية وتطوره عبر السنين.
وعلى الصعيد السياسي تعزز هذه الاستطلاعاتُ موقفَ حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية التي تضع العصيَّ في دولاب العملية التفاوضية، حين ترفض حق العودة، وتشترط شرطا طاردا لهذا الاستحقاق، وهو اعتراف الطرف الفلسطيني بـquot; يهودية إسرائيلquot;.
وفي الوقت الذي يهدد فيه هذا المطلبُ الوجودَ العربي الفلسطيني في الداخل في أراضي الـ 48 ويحول دون عودة اللاجئين الفلسطينيين من الشتات إلى مدنهم وقراهم التي هُجِّروا منها، فإنه يُستخدم للتحذير من التوسع في الاستيطان في أراضي الدولة الفلسطينية المزمعة؛ لأن هذا التوسع الاستيطاني يهدد حل الدولتين، ويمهد الطريق للدولة المزدوجة القومية.
تصر القوى الإسرائيلية المتنفذة هذه الآونة على اعتراف السلطة الفلسطينية بالطابع اليهودي للدولة، ولم يعودوا مكتفين بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، بالرغم من أن هذه الصفة quot; اليهوديةquot;، لـ إسرائيل لم ترد في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947م.
تصر هذه القوى اليمينية على هذا الاعتراف بهوية إسرائيل اليهودية، على الرغم من كون الهُوية اليهودية نفسها غَيرَ متفق عليها في الأوساط الثقافية والسياسية الإسرائيلية، وأن تعريف من هو اليهودي لا يزال غير محسوم.
وحتى الثقافة الموحدة لا تزال هدفا وتحديا تواجهه المؤسسة الإسرائيلية الرسمية التي تشغلها صياغة quot;الذاكرة الجماعيةquot; وتحاول شطب ذاكرة اليهود الجماعية، وهم المهاجرون من البلدان الشرقية والعربية الغربية والناجين من الكارثة وغيرهم، ومحاولة quot; صهرهمquot; فيquot; الأتون الصهيونيquot;.
لماذا هذا المطلب؟
لا يخفى تعنت القادة الإسرائيليين أمام quot;استحقاقات السلامquot; ولا تخفى مماطلاتهم وتهربهم من أي مواعيد، أو جداول زمنية، وآخر تصريحات في هذا الصدد صدرت عن وزيرة القضاء الإسرائيلية ورئيس طاقم المفاوضات، تسيفي ليفني التي صرحت، مطلع الشهر الجاري، للقناة التلفزيونية الثانية العبرية بأن:quot; المفاوضات قد تتجاوز التسعة أشهر التي حددها الأمريكان ضمن تفاهمات استئناف المفاوضات، وقالت بأنه يجب أن لا نتصور بأن أحدا سيضع المقصلة أمام المفاوضين بعد ثمانية أو تسعة أشهر المحددة لإنهاء المفاوضاتquot;. وكأنها تستعيد تصريحات سابقة لرئيس الوزراء الأسبق، إسحاق رابين الذي قال: إنه لا مواعيد مقدسة للمفاوضات. وأما نتنياهو فحدّث عن مرواغاته وتملصاته ولا حرج...
فقد يقال إن هذا المطلب جزء من الوسائل والذرائع للتسويف، ورمي الكرة إلى الملعب الفلسطيني؛ لاتهامه بإفشال المفاوضات، وأنه المتسبب في حرمان الفلسطينيين من التحرر من الاحتلال.
قد يكون هذا صحيحا، ولكن إذا وضعنا هذا المطلب في سياق النزاع تاريخيا، فإننا يمكن أن نفهمه على نحو أكثر استنارة، وعمقا.
إذ من المعروف أن قضية مسؤولية إسرائيل عن تهجير الفلسطينيين عام 48 من بلادهم بدأت ومنذ ما يزيد عن عشر سنوات تتصاعد في أوساط المؤرخين والمثقفين، وأصبح من المتاح المسُّ بما كان يعتبر من المقدسات؛ فوُجد من المفكرين والمؤرخين الإسرائيليين من يحمِّل إسرائيل مسؤولية تهجير الفلسطينيين.
فـ quot; في دراسته عن نشوء مسألة اللاجئين الفلسطينيين quot; صدرت بالإنجليزية 1987quot; يستخلص بيني موريس، أحد أبرز تيار المؤرخين الجدد، أن هذه المأساة كانت نتيجة مباشرة للحرب، ولم تنجم عن نية مسبقة، يهودية كانت أم عربية، لكنه يضيف أن quot; زعماء البيشوف، بمن فيهم بن غوريون، كانوا يرغبون، منذ أواسط الثلاثينات، بقيام دولة خالية من العرب، أو بأقل عدد منهم؛ لذلك أيدوا الحل الترانسفيري لمشكلة هذه الأقلية..quot; بيني موريس: نشوء مسألة اللاجئين الفلسطينيينquot;
وأما أمنون راز كركوتسكين فقد كان أكثر حسما في هذه المسألة وجزما، إذ قال:quot; لا أحد يجادل في الحقائق. لا أحد من المؤرخين الإسرائيليين يدعي اليوم أن بيني موريس غير محق. لن تجد أحدا من المؤرخين الإسرائيليين يدعي أنه لم يكن هناك طرد.quot;
ويذكر الباحث الفلسطيني، محمد حمزة غنايم أن موريس برأيه هذا كان يبحث في أكثر القضايا نفيا وإنكارا في الثقافة الإسرائيلية بكافة اتجاهاتها، ويحاول إعادة النظر في الرواية الدعائية الرسمية بأن الفلسطينيين لم يُطردوا بل quot; رحلوا بتعليمات من قادتهمquot; وذلك بتسليط الضوء على سياسة بن غوريون في اعتراض سبيل العودة، ومواصلة منع الفلسطينيين من العودة إلى بيوتهم وأراضيهم، كما برز ذلك في جريمة طرد فلسطينيي اللد والرملة ويافا على وجه الخصوص في عام 1948.
والصحيح أن هذا التنصل من المسؤولية، ومن الظلم التاريخي الذي أوقعته إسرائيل على الشعب الفلسطيني يستمر في صورة هذا المطلب:quot; الاعتراف بيهودية الدولةquot; الذي يُعنى أكثر ما يُعنى بالفصل والإقصاء للضحايا قدر المستطاع، وقد يصل حد المطالبة بترحيلهم quot;الترانسفيرquot; فليست القضية- كما يذكر مؤرخون إسرائيليون- في وعي السياسيين على اختلافهم من اليمين إلى اليسار تتصل باعترافهم بالظلم، وإنما بالتخلص من الفلسطينيين بطريقة أو بأخرى.