تسلط الأضواء في تونس على حكومة علي العريض، ويعتبرها أكثر من مراقب عنوانا لفشل هذه المرحلة الإنتقالية الثانية، شأنها شأن حكومة حمادي الجبالي التي سبقتها في سياسة أمور البلاد والعباد. وتطالب المعارضة التونسية بإصرار بحل هذه الحكومة قبل الجلوس إلى طاولة الحوار مع شركائها في الوطن من النهضويين. ويتجاهل السواد الأعظم من الرأي العام الوطني الرئاسة الأولى ولا يعيرها أغلبهم أي اهتمام، إلا فيما تعلق بتندر أو سخرية من سلوك ما. وكأن سكان قرطاج من المؤتمريين ورئيسهم يبلون البلاء الحسن ويلعبون الأدوار المناطة بعهدتهم على أكمل وجه، رغم صلاحياتهم المحدودة التي رضوا بها عن طيب خاطر، رغبة في ولوج ذلك القصر ذي العيش الرغيد مهما كان الثمن، ربما شماتة في بن علي أو من أجل نعيم ذلك quot;المستقَرquot; المؤقت وquot;متاعه إلى حينquot;، والله وحده يدرك ما يعتمل في الأنفس وما تخفي الصدور. لأن الراغب في خدمة بلاده، ومهما حاولوا إقناعنا بخلافه، لا يرضى بتلك الصلاحيات المحدودة والفتات الذي منحه quot;الدستور الصغيرquot; (التنظيم المؤقت للسلط العمومية) لـquot;صاحب قرطاجquot;.

إن أبناء حزب المؤتمر (حزب رئيس الجمهورية) ومشتقاته (والذين لا يمكن إنكار نضالات بعضهم ممن انتموا إلى الحزب قبل 14 يناير 2011 لا بعده)، وبإجماع كثيرين، هم الأكثر راديكالية في الترويكا الحاكمة في تونس والموالين لها، ويتفوقون، في تشددهم مع معارضيهم، على من يسمون بـquot;صقور حركة النهضةquot;. وبالتالي فإن رئاسة الجمهورية هي جزء لا يتجزأ من الأزمة التي تعيشها البلاد، ولن يكون بيدها الحل رغم الجهود التوفيقية التي يحاول رئيس البلاد (مع احترامنا الشديد لشخصه ولتاريخه النضالي) أن يقوم بها من خلال سلسلة اللقاءات التي أجراها مع عدة أطراف والتي رأى بعض المحللين أن هدفها سحب البساط من تحت أرجل المنظمات الراعية للحوار الوطني.
فكما لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون وسيطا نزيها في السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين نظرا لأنها تتخندق مع طرف على حساب الآخر، لا يمكن أيضا للسيد الرئيس أن يلعب ذلك الدور في الأزمة التي تعيشها البلاد، لأنه باختصار أحد أطرافها باعتبار أن حزبه هو المكون الأكثر شراسة على خصومه في الترويكا الحاكمة ولا يحظى بثقة الجميع. وبالتالي فإن أية مبادرة قد تصدر عن قصر قرطاج في هذا الإتجاه هي مضيعة للوقت وتعطيل لجهود المنظمات الراعية للحوار ومحاولة للعب دور لا يتفق وطبيعة الشعارات المتشددة التي يرفعها حزب الرئيس.
لقد كان من المفروض، وبعد أن اختار دستورنا الصغير النظام البرلماني quot;المشوهquot;، الذي يراه البعض مجلسيا وماهو بمجلسي، أن يتم تكليف شخصية وطنية محايدة وغير متحزبة لرئاسة البلاد خلال هذه المرحلة الإنتقالية الثانية، شخصية من خارج فريقي المعارضة والموالاة تكون لديها الخبرة الكافية والحنكة للعب دور الموفق عند الأزمات بين فريقي الصراع. أي ذلك quot;الكبيرquot; الجامع صاحب السلطة المعنوية على أبنائه والذي يهابه الجميع ويثقون فيما يتخذه من قرارات، وهي صفات متوفرة لدى شخصيات وطنية عديدة عرفت بنزاهتها طيلة مسيرتها السياسية ويعرفها الرأي العام الوطني حق المعرفة ويثق فيها ولا يمتنع لو تمت توليتها على الناس في هذا الوقت العصيب الذي تمر به بلادنا.
وفي حال عدم التوافق على شخص هذا الرئيس، من الممكن سياسة البلاد بحكومة لا غير، ودون الحاجة إلى رأسين في السلطة التنفيذية. فنحن في مرحلة مؤقتة إنتقالية لم تتركز فيها مؤسسات الدولة ولم يكتب دستورها بعد، وقد منحنا أغلب الصلاحيات لرئيس الحكومة ولا ضير من منحها كاملة له ولمجلس الوزراء على غرار عديد التجارب المشابهة في دول أخرى يذكرها التاريخ. ما الفائدة من رئيس بلا صلاحيات يسانده طاقم كبير العدد من المستشارين؟ ألم يكن من الأجدى إنفاق رواتب الرئيس وطاقمه ذاك على تنمية الجهات الداخلية والمناطق المحرومة؟ أما الدور التوفيقي بين الفرقاء عند الأزمات، فقد مَنً الله علينا في تونس بمنظمة شغيلة (الإتحاد العام التونسي للشغل) عريقة ومناضلة وقوية، بخلاف بلدان أخرى، قادرة على الإضطلاع بهذه المهمة على أكمل وجه ما يجعلنا قادرين على الإستغناء عن منصب الرئيس في هذه المرحلة الإنتقالية، في انتظار تبلور شكل النظام، وفي انتظار معرفة مؤسسات الدولة بعد الإنتهاء من كتابة quot;الدستور المنتظرquot;.
إن أي حل للأزمة الراهنة لا يمكن أن يحصل دون quot;قرطاجquot; أي دون أن ننظر في شأن الرئاسة الأولى. فإما أن نولي أمرنا لرئيس توفيقي توافقي لم ولن يكون طرفا في أي صراع بين فرقاء الحكم ويكون الملجأ للجميع للنصح والإرشاد ولديه القدرة على فرض الحلول من خلال سلطته المعنوية، وإما أن نستغني عن الرئاسة المؤقتة بصورة مؤقتة لإيقاف نزيف النفقات في انتظار إتمام الدستور. فهناك خلل على مستوى الرئاسة الأولى وجب تجاوزه واعوجاج وجب تقويمه، وأي حل يستثني قرطاج هو بلا معنى.