من مفكرة سفير عربي في اليابان

كتبت المجلة الاقتصادية البريطانية، دي ايكونوميست،& في عددها الصادر في الحادي والثلاثين من شهر مايو الماضي تقول: "يؤكد دونالد بيرويك، الرئيس السابق لمؤسستي الرعاية الصحية الأمريكية للمسنين والفقراء، المديكير والمديكيد، بأن الولايات المتحدة خسرت في عام 2011، بفساد السرقة والتزوير، أموال طائلة، تتراوح بين 82& مليار وحتى 272 مليار دولار، لتصل النسبة إلى 10% من ميزانية الرعاية الصحية، أي 1.7 % من الناتج المحلي الاجمالي، ويعتبر هذا المبلغ المسروق ضعف ميزانية الرعاية الصحية في بريطانيا العظمى. ويبدو بأن المجرمين يعشقون الرعاية الصحية الأمريكية لان بها اموال طائلة، فليس هناك دولة في العالم تصرف على الادوية والعمليات مثلها، كما لا أحد مسئول عن حماية هذه الاموال. فيستفيد البعض من الرعاية الصحية التي لا حق لهم فيها، بينما يطالب البعض الاخر اموال طائلة لخدمات لم يقدمها. فمثلا، اتهم احد الاطباء بالمطالبة بقيمة ألف مقعد الكتروني متحرك للمعاقين، لم يوفرها لمرضاه، كما طالبت مؤسسات رعاية المسنين قيمة تقدر بأضعاف ما صرفته على الادوية. فقد تحول المجرمين من بيع الكوكايين إلى بيع الادوية المسروقة من الرعاية الصحية للفقراء، وبدون خطر الاعتقال. فقد وصفت عيادة بمدينة نيويورك، كذبا، خمسة مليون حبة مخففة للألم، لتباع في شوراع المدينة بقيمة 30 وحتى 90 دولار، للحبة الواحدة. كما اكتشف المجرمون بان سرقة بطاقة الائتمان قد تكتشف مباشرة، بينما سرقة نسخة من بطاقة الرعاية الصحية لمريض، قد لا يلاحظها احد، ليتمكنوا من سرقة الكثير من اموال الرعاية الصحية بدون مراقبة."&
كما يذكرني هذا المقال بما كتبه الاقتصادي الأمريكي، بول كروجمان، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد في كتابه، ضمير لبرالي،& حيث بين بأنه بعد أن خصخصت الحكومة الأمريكية إدارة السجون، تدفع الدولة اليوم للشركات الخاصة 33 الف دولار سنويا لكل سجين. فقد تحولت إدارة السجون لتجارة مربحة، فكلما زاد عدد المساجين، كلما سجلت الشركات الخاصة أرباحا طائلة، ولذلك يتعاون بعض المسئولين الفاسدين مع هذه الشركات الخاصة، لزيادة عدد المساجين، وزيادة فترة سجنهم، بل منع العفو عنهم. والجدير بالذكر بأنه يبلغ عدد سكان الولايات المتحدة 5% من& سكان العالم، بينما يوجد بها 25% من مجموع المساجين في العالم.&
فهذا هو وضع الفساد في دول الغرب المتقدم، ولنحول وجهة نظرنا لواقع الشرق، وبالأخص لمنطقة الشرق الأوسط، لنقرأ يوميا عن جرائم الفساد والتطرف والارهاب، بل ليتحول المسلمون أعداء ضد بعضهم البعض، فيقاتلون، ويقطعون أحشاء بعضهم، ويأكلونها نية. فتصور عزيزي القارئ ما وصلت إليه أوضاع منطقتنا بخلط الدين بالسياسية، بتحويل الحوار السياسي المتزن، إلى حروب طائفية دموية مدمرة للمجتمع، واقتصاده، وتطوره، والذي سيرجع بعض بلداننا للقرون الوسطى في طريقة تفكيرها ومعيشتها. لقد أصبحت محاربة الفساد، والتطرف، والإرهاب، من أكبر تحديات العالم في القرن الحادي والعشرين، والذي يكلف ارهاصاته التريليونات من الدولارات، والناتج عادة من سوء الانظمة، وليؤدي لشلل التنمية المستدامة، وليترافق بزيادة البطالة، والفقر، والجهل، والمرض. وإذا لم تكن هناك قنوات شرعية للإصلاح، وتخليص المجتمع من آفتي الفساد والتطرف المدمرتين، سيثور البعض، وسيحتضن البعض الاخر قنوات الجريمة أو التطرف. وقد يؤدي التطرف لخلق افات مجتمعية جديدة، بانتشار ظاهرة الارهاب، ولتنتهي بعمليات القتل الغير مميز حتى بين الأطفال والنساء والشيوخ، بل قد يتحول المجرم لإرهابي يقتل نفسه، وييتم زوجته وأطفاله، لينتقم بالتدمير الكامل لاقتصاد بلاده. وقد يتساءل البعض: ما الذي يحول الإنسان من عنصر بشري متعاطف، إلى مجرم مجنون فقد إحساس التعاطف والرحمة؟
&لقد ناقش البروفيسور دانيال ريسل، الطبيب بجامعة لندن، هذه السؤال في كتابه الالكتروني الجديد، إعادة تسليك الاخلاقيات. وقد بدأ حديثه بمقولة لرجل& قضى 18 سنة من عمره في السجون، واعتبر السجن& ملجأ ممل، لا مكان لتعلم التغير ليقول: "هناك قلة سيئة في السجون، ولكن هناك الكثيرون من فضلوا الاختيار الخاطئ." ليؤكد بذلك بأن المجرم ليس سلوك وراثي بل سلوك ناتج من ظروف اجتماعية، كما أن هناك مجموعة من المساجين الاكثر مقاومة لتغير سلوكهم، والذين لا يتأثرون من حزن أو ألم أحد. فالعادة حينما يشاهد الانسان منظر حزين تتغير ملامح وجهه، وتزداد نبضات قلبه، ويعرق قليلا، وهذه هي علامات تعاطف الانسان مع حزن وألم الاخرين. ويرتبط كل ذلك باضطراب نفسي في تربية الطفولة، وقد يترافق بضمور في جزء من الجهاز العصبي المسئول عن التعاطف، ويسمى "اميجدالا". فتعلم السلوك الاخلاقي جزءا من النمو البشري، كتعلم المشي والكلام، فيستطيع الطفل في شهره السادس التفريق بين المخلوقات والجماد، ومع بداية العام الأول يستطيع تقليد الاخرين، ومع سن الرابعة يتطور لديه العقل المجتمعي ليتمكن من معرفة نية الاخرين، والتي هي مهمة في عملية التعاطف.
فالسلوك الاخلاقي هو سلوك فطري، ويتطور في السنوات الاولي من الحياة، ويصعب تعلمه مع الكبر، حيث تنمو الخلايا العصبية وتتواصل بأليافها مع خلايا عصبية اخرى. كما تتلف الخلايا العصبية من القلق والضغوط الحياتية، فيتأخر النمو العقلي العصبي، ليؤدي ذلك لتأخر عملية التالف والتناغم مع الاخرين، وليزيد ذلك الضغوط الحياتية والقلق. ويعتقد الكاتب بأنه حينما نختار مجموعة من أبناء العائلات الفقيرة والمضطربة التواصل، ونجمعهم معا في السجن، وبعيدا عن المجتمع، وبدون تعليم أو تدريب، نخلق فئة جديدة من المجرمين المزمنين. كما نضمن استمرارهم في الجريمة بدفعهم بالشعور بالخجل من انفسهم، فالخجل يولد عنف دخلي، يؤدي الانسان نفسه، وعنف خارجي يؤدي الاخرين. كما أننا حينما نطلقهم في المجتمع، ولا نوفر لهم الدعم الاجتماعي اللازم، بالحصول على عمل أو التدريب للتهيئة للعمل، يصعب تآلفهم مع مجتمعهم الجديد، وتستمر ملتصقة بهم سمعة مجرمي السجون. ويعتقد الكاتب بأن نظام السجن التقليدي يحقق للمجتمع المجرم الأبدي، ليعود المجرم للجريمة في 75% من الحالات، بذلك لم يساعد السجن على الاصلاح. ومن الممكن تغير نظامنا لتعليم مهارات التعاطف، ويحتاج ذلك لقبول المجرم لمسئولية جريمته واستعداده للتأهيل النفسي لإصلاح العلاقات البشرية وتطوير مهارات التعاطف. ويبقى السؤال كيف يتم هذا الاصلاح؟
تبين الابحاث العلمية بأن عملية تطور سلوك التعاطف تبدأ منذ الطفولة وتتطور مع الوقت، وترتبط بالتصاق الطفل بعائلته، وتتطور مع الخبرة الحياتية، بحيث تتطور معها الخلايا العصبية المسئولة، بزيادة تواصل اليافها العصبية مع بعضها البعض. فيولد الطفل بحوالي مائة مليار خليه عصبية منفردة في المخ، ويحتاج النمو العقلي لتواصل هذه الخلايا العصبية ببعضها البعض، ويتم هذا التواصل لحظة بلحظة مع تعلم الطفل لخبرات حياتية جديدة، لتصل عدد هذه الاسلاك البيولوجية لحوالي ثلاثة مائة تريليون. فالبيئة السليمة تطور الخلايا العصبية فتزيد من عددها، وحجمها، وتواصلها مع الخلايا العصبية الأخرى لتعمل بتناغم جميل معا في تطوير تفكير وسلوك أخلاقي سامي، كما تعمل الجينات& بكفاءة عالية لتنمية العقل والجسم. ويبقى السؤال: ما الذي يقي البشر من القيام بالجريمة؟ وهنا يجب علينا التفريق بين الإحساس بعمل شيء سيئ، والشخص السيئ. فاحساس الفرد بأنه شخص سيء يؤدي للخجل، والخجل يؤدي للعنف. ومع أن الخجل مهم، ولكن معرفة اسباب ما وراء الخجل أهم، حيث يستطيع المجرم معرفة اسباب عمله، ثم يبدأ التعرف على تأثير ذلك على البشر ومعاناتهم، كما يلفت ذلك أيضا نظر البشر لمعاناة المجرم، لتبدأ بينهم عملية تالف وتناغم، بعد أن يبدأ العقل البشري في إنتاج كمية كبيرة من هرمون الاكسوستين. فبجمع المجرم مع الضحية، ليتعايش مع نتائج جريمته، يؤدي لخلق التالف في المدرسة وفي العمل.
وقد ناقش البروفيسور الأمريكي، جرمي ريفكن، أستاذ العلوم الاقتصادية بكلية ورتون، بجامعة بنسلفانيا، والمستشار الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، في مقدمة كتابه، حضارة التعاطف، تحديات الجنس البشري في القرن الواحد والعشرين فقال: "لم يتوحد العالم في تاريخه بتكنولوجية اتصالاته وتجارته وثقافته، ويتمزق بالحروب، والأزمات المالية، والتغيرات البيئية، وانتشار الأمراض، كما هو اليوم. فكلما حاول التفكير في طريقة للتعامل مع تحديات العولمة، لم ينجح في جمع موارده الذهنية، ليفكر عالميا، ويعمل محليا. وترجع حالة التفكك هذه، للتناقض بين رؤيتنا لعالمنا الجديد، وقدراتنا على إدراكه في وعينا البشري، بسبب الطريقة التي نمت بها عقولنا، فدفعتنا للشعور والتفكير والتنفيذ في بيئة عالم قديم، لم يعد له صلة ببيئة العولمة التي خلقناها لأنفسنا. وتواجه البشرية اليوم تحدي تشكيل وعي عالمي يساعد الإنسان أن يعيش ويزدهر في مجتمع العولمة الجديد. ومع تسارع قوى العولمة وتشابكها، سيزداد الضغط على الشكل القديم للأيديولوجيات ومنطقها، وستزداد الخطورة، حينما نحاول أن نبحر في محيطات بعيدة عن إمكانياتنا وسيطرتنا، وسيكون لبزوغ وعي الوئام والتعاطف دلالات مستقبلية عميقة، حينما تنهي فلسفة التنوير، الوعي القديم، بالعقل، والمنطق."
وقد ساهمت الأبحاث العلمية في تفهم أسرار الوئام والتعاطف باكتشافها خلية عصبية، سميت بمرآة الخلية العصبية، والتي تنحصر مسئولياتها في البحث عن الانتماء، والرفقة، والتواصل، بالمخلوقات والطبيعة. ويبدأ تطور الخلايا العصبية في العقل البشري بعد الشهر الأول من الولادة، ويحتاج نموها للتفاعل والتعاطف مع الآخرين، والذي يتم من خلال خلية مرآة التعاطف. وتؤدي هذه الخلية لتحول الإنسان لكائن تواصل اجتماعي، يجمع بين التعاون، والتنافس، ليبقى التعاون الصفة التي تجمعنا كمخلوقات اجتماعية، وضمن هذا السياق نتنافس أحيانا لنحقق مصالحنا، وحينما تتجاوز مصلحتنا الشخصية رباطنا الاجتماعي، نعرض أنفسنا للنبذ، وضميرنا للقلق، وبقاءنا للخطر. كما أن الإيثار ما هو إلا صفة متقدمة من صفات التعاطف بإحساس الإنسان بعواطف الآخرين، من الحزن، والألم، والسعادة، بدون توقع شيء مقابل، والذي هو منعكس طبيعي، ينمو بعد الشهر السادس.
وتؤكد الدراسات بأن بعض آليات الإحساس والعاطفة مهمة للتفكير العقلاني، فهناك مركز عصبي مسئول عن تفاعل العاطفة مع العقلانية، ويؤدي تلفه لشلل الحركة، والعاطفة، والتركيز، والتفكير، وإصدار القرارات العقلانية. كما أن التفكير عملية تناغم معقدة بين شبكة تنظيم كيماوية وعصبية، تربط الإنسان بمحيطه، لتجمع الإحساسات، والعواطف، والمنطق، وتخلق تناغم بين البشر، والبيئة، فيصبح كل منا موجود من خلال علاقته بالآخر. وعبر الفيلسوف الروسي مايكل باكتين عن ذلك بقوله: "نكون يعني التواصل، لنكون يعني لنكون للآخرين، ومن خلال الآخرين نكون أنفسنا، فالإنسان يملك حدوده بالنظر في داخل نفسه، من خلال النظر في عيون الآخرين، أو بعيون الآخرين." ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان