من مفكرة سفير عربي في اليابان

يتحدث الاعلام العالمي عن خلافات الادارة الأمريكية مع الحكومة الاسرائلية، بعد أن عانت الولايات المتحدة من حروب فاشلة في افغانستان والعراق. كما يبدو بأن هناك حديث عن استراتيجية امريكية قادمة في الشرق الأوسط، بنقل مسئوليات صراعات المنطقة من المسئولية الأمريكية، إلى قيادة قوى فاعلة في المنطقة، وهي تركيا، وإيران، والسعودية، وإسرائيل، بشرط أن تتوازن هذه القوى، بمنع هيمنة أحدها على الاخر، لتتجنب حروب مستقبلية بينها. وبين هذه الرواء الأمريكية المستقبلية، تبرز رعانة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي ركض لقبول دعوة الكونجرس، أو رتب خفيا دعوة الكونجرس، بمساعدة صديقة الأمريكي الجمهوري السابق، رون درمر، الذي اصبح سفير إسرائيل للولايات المتحدة، بعد أن استغني عن جوازه الأمريكي،& ليتحدى البيت الأبيض، بخطابه الثالث فيه. ويتساءل البعض هل هذه الرعانة هي نتيجة خلاف بين حكومتين، أم أنه تخوف إسرائيلي من استراتيجية امريكية قادمة في الشرق الاوسط، لحل الامور المتعلقة، ومن ضمنها الصراع العربي الإسرائيلي. وقد تكون إسرائيل الحلقة الأضعف استرتيجيا، في الترتيبات القادمة، لتفقد الدعم الأمريكي الاتوماتيكي، كما قد يفرض ذلك عليها خطة سلام جديدة.& ويبقى السؤال هل هذه اضغان احلام عربية جميلة، أم خطة عولمة غربية مدروسة؟
فخير ما قرأت للإجابة على هذا السؤال هو مقال لبروفيسور هولاندي، وأستاذ بجامعة "بارد" الأمريكية، وهو البروفيسور، إيان بوروما، استاذ العلوم الديمقراطية، وحقوق الانسان، والصحافة، في تعليقه على زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة للولايات المتحدة، بالصحيفة الالكترونية الفكرية، سيندكيت بروجيكت، وبعنوان: بيبي ذهب لواشنطن؟
يبدأ البروفيسور بوروما مقاله بمقدمة يقول فيها: "لماذا قام بيبي (نتنياهو) بذلك؟ ماذا يملك "بيبي" ليقبل دعوة من الجمهوريين الى الكونجرس، ليأتي ويهاجم سياسة الرئيس أوباما، نحو إيران، بدون إعلام البيت الأبيض؟ يدعي نتنياهو بأنه كان مخلصا، في مهمته التاريخية، ليعبر عن قلقه عن مصير إسرائيل، وجميع اليهود."
ونحن نعلم مسبقا عن قلقه، مع أن الكثير من اليهود في الولايات المتحدة، وباقي العالم، لا يشعرون بأنه يمثلهم ويعبر عن رأيهم. فهل حن لتصفيق مؤيديه، الجمهوريين؟ وهل يقامر على فرصة نجاح الجمهوريين في انتخابات عام 2016؟ وإذا كان ذلك فعلا هي الحقيقة، فقد نال التصفيق. ولكن الرجوع إلى استطلاعات الرأي، تبين بأن حركته الأخيرة كانت مقامرة كبيرة. أم في الحقيقة استغل خطابه في الكونجرس، لدعم دعايته الانتخابية؟ فهل تمنى أن يؤثر على منتخبيه، وهو على مسرح الكونجرس العالمي؟ ولكن تبدو هذه أيضا مقامرة خطرة. فكثير من الإسرائيليين، بالرغم من قلقهم من النووي الايراني، كانوا ينتقدونه بشدة، على إهانة رئيس الولايات المتحدة، بل وحتى اليهود الديمقراطيين نفسهم. بل وحتى اثنين من مدراء الموساد السابقين، أعلنوا، بأنه يجب أن لا يكون رئيس الوزراء القادم لإسرائيل.& فمير دجان، الذي استقال من رئاسة المخابرات الإسرائلية في عام 2011، يعتقد بأن تصرف بيبي مدمر لمستقبل الأمن الاسرائيلي، ومهما تكن مقاصده فقد حقق بيبي ما لم يحققه قائد إسرائيلي سابق، ليس فقط اغضب الرئيس الامريكي، بل ايضا فقد دعم الشعب الأمريكي، الذي عادة كان يدعم إسرائيل، مهما كان رأيه الخاص. بل حينما لا يحصل بيبي حتى دعم شخص، يمثل المصالح الإسرائيلية في الولايات المتحدة،& كإبراهام فوكسمان، فهو في محنة.
فحينما دفع بيبي الأمريكيين للاختيار بين ولائهم لإسرائيل، وولائهم لرئيس بلادهم، فقد خلق فجوة كبيرة، في الدعم الحزبي الأمريكي المشترك لإسرائيل. وقد لا يعني ذلك بأن السياسيين الأمريكيين كانوا دائما، يتفقون مع السياسات الإسرائيلية، ولكن القليل منهم تشجعوا ليعبروا عن انتقادهم العلني. وذلك للحكمة، بأن فائدة الصمت أكبر من خسائر النقد، كفقد الدعم اليهودي المالي لحملاتهم الإنتخابية، واتهامهم باللاسامية، بل والخيانة ضد حليف، التي هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وغيره. والحقيقة بأن إسرائيل، تستطيع دائما الاعتماد على الدعم السياسي الأتوماتيكي الأمريكي، يدعو لتأكيد الفرضية العالمية التي تقول، بأن إسرائيل وأمريكا ملتصقين كتؤمين سياميين. بل، يعتقد البعض بأن إسرائيل هي مخالب القط الأمريكي، بينما يعتبرها البعض الاخر، روحانية القرن التاسع عشر القيصرية الكاذبه، في الوقت الذي يعتقد أعداء السامية بأن، اليهود يحكمون الحكومة الامريكية، مع الوول ستريت، والإعلام الأمريكي. وطبعا كانت هذه الاعتقادات متأصلة في المجتمع الغربي، قبل تأسيس دولة إسرائيل الحديثة في عام 1948.
فقد كان القوميون الأوروبيين، في القرنين التاسع عشر والعشرين، يعتبرون أمريكا البلد الطبيعية للرأسمالية، والكسموبويليتيكية، وبدون أي ولاء للوطن، أي بمعنى اخر بأن اليهود يحكمونها. كما افترض البعض بأن اليهود، إن كانوا شيوعيين أو رأسماليين، لا يثقون بحلفاء غير اليهود، ويعني ذلك بعد عام 1948، دولة إسرائيل. وبادعاء "بيبي" بأنه زعيم جميع يهود العالم، أين ما عاشوا، فقد قوى بذلك الكثير من هذه العقائد. ولو رجعنا للتاريخ، وجدنا في الحقيقة بأن الولايات المتحدة لم تكن داعمة لليهود دائما، كما هي اليوم. فقد كان الفرنسيون أكثر الداعمين لإسرائيل، حتى قرر الرئيس شارل ديغول إهمالهم، بعد حرب عام 1967، ليرضي العرب.& كما أن الدعم الأمريكي بعدهم، لم يكن بسبب حب الافينجليكيين، أو الأرض المقدسة، أو الحب العفوي لليهود، بل بسبب استراتيجيات الحرب الباردة. حيث كانت تحتاج الولايات المتحدة لحلفاء استراتيجيين، لحماية أسطولها السادس في شرق البحر الأبيض المتوسط، بعد أن اعتقدت بأن سوريا ومصر تحولت لقواعد سوفيتية.
ومع الوقت، وخاصة بين المحافظين، أصبح انتقاد إسرائيل، هو ليس فقد معاداة للسامية، بل أيضا عداء ضد الشعب الأمريكي بأجمعه. وطبعا، هناك بعض الحقائق في كل ذلك، فالأسطورة اللاسامية القديمة، بأن أمريكا يحكمها اليهود لم تختفي تماما، وخاصة في الشرق الأوسط، ولكن في نفس الوقت الربط الاتوماتيكي بين المصالح الامريكية والإسرائيلية، جعل من الصعب انتقاد أحداهما، بدون انتقاد الاخر.& وباختيار "بيبي" أن يقلل من شأن الرئيس الأمريكي، بارك أوباما علنا، فقد فكك هذا الرباط. وبذلك، جعل من السهل أن ينتقد السياسيين اليهود الأمريكيين القيادات الإسرائيلية، كما سهل على السياسيين الأمريكيين معارضة السياسات الإسرائيلية، التي يعانون منها. وقد يرى البعض بان ذلك هزيمة كبيرة لإسرائيل، ولكن قد يكون العكس هو الصحيح. فرحلة "بيبي" الخاطئة لواشنطن، قد تكون أفضل ما حدث لإسرائيل منذ تأسيسها، فليس من مصلحة الدولتين أن تبدو أحدهما مخلبا للأخرى. وكلما كانت الولايات المتحدة أكثر صدقا مع إسرائيل، فكلما استطاعت أن تساعدها، في التعاون مع الفلسطينيين، لخلق سلام دائم، وعادل، وشامل في الشرق الاوسط. وقد لا يكون ذلك قصد زيارة بنيامين نتنياهو، ولكنه قد يكون أعظم ما سيحققه في تاريخ حياته. فليدخل لعظمة بيت التاريخ من باب خاطئ، وبدون قصد.
ويبدو بأن توقعات البروفيسور الهولندي قد بدأت تعكس صداها في الصحافة الأمريكية، بعد نجاح بنيامين نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. فقد كتبت الصحفية هيلين كوبر مع زميلها ميكل شير تحليلا، في جريدة النيويورك تايمز الدولية، بالتعاون مع جريدة اليابان تايمز، في 20 مارس الماضي تقول فيه: تجمع بين الرئيس اوباما وبنيامين نتينياهو علاقات مسمومة، قبل انتصاره الاخير. فقد انتصر نتينياهو الان، بعد حملته العدوانية على الدولة الفلسطينية والاتفاقية النووية مع إيران، والسؤال المهم: هل من الممكن أبدا اصلاح هذه العلاقة، أو هل سيحاول اوباما، حتى، اصلاحها؟ ويبدو الجواب حتى الان، بأن اوباما لن يضيع وقته في المحاولة. ففي انتقاد قوي ومدهش، وصف البيت الأبيض بلاغة نتينياهو في حملته الانتخابية ضد العرب الإسرائيليين، لأنهم ذهبوا للإبداء بأصواتهم، بأنها محاولة مفرقة بتهميش المواطنين الإسرائيليين العرب، والتي لا تنسجم مع القيم التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة. ومع تحول نتنياهو، في اللحظات الاخيرة من حملته الانتخابية، ضد الدولة الفلسطينية، فقد أكد عدد من مسئولي الادارة الامريكية، بأن إدارة اوباما، قد توافق الان على تمرير قرار في مجلس الأمن، يجسد مبدأ حل الدولتين، ضمن حدود عام 1967، مع الاتفاق مع الفلسطينيين، على مقايضة بعض الاراضي المستوطنة. وقد شرح أحد خبراء الدبلوماسية الأمريكية معنى ذلك بقوله: "بأننا حتى الان ملتزمون معكم (مع إسرائيل)، ولكن أن لم تعطونا شيئا لنعمل من خلاله، لن نستطيع حمل باقي العالم لخدمتكم."&&& ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان