يقودنا الإمعان في التفكير إلى السباحة في عدة بحور، فالوضع القائم في الدول العربية يحتاج إلى شخص قوي يفرض الرؤية الصحيحة فرضا مهما كانت الوسائل، لأن العرب قوم لا يخافون الله في أنفسهم وأهليهم وسوف يستمر التدمير والقتل والدفن في الحياة إلى ما لا نهاية. إن التغيير الانقلابي هو ما خلص إليه كثير من المفكرين من أمثال مارت لوثر كنج وتوماس كون، وقد خالفوا علماء الاجتماع مثل دوركايم وماكس فيبر وماركس ممن فسروا التطور الاجتماعي والمجتمعي على أنه تغير تراكمي وتدريجي ويبدأ صغيرا في منطقة معينة من المجتمع ثم ينتشر إلى بقية المجتمع، وهذا ما لا يمكن تطبيقه في العالم العربي القائم على الهمجية والصرعة القبلية والتشدد الديني، دون توسيع للأفق أو تعمق في طبيعة الحياة الاجتماعية وكيفية تطورها وازدهارها وتحقيق العدالة فيها لكل أفرادها من شتى الأعراق والأديان.

إن فكرة التغيير الانقلابي في الفكر هي أحد نتاج فكر العالم الأمريكي توماس كون (1922-1996) وهو عالم في الفيزياء وهو يهودي تخرج من جامعة هارفارد. ولا يهمنا أنه يهودي بقدر ما يهمنا فكره الذي تبناه الكثير من المفكرين. تقول نظريته في التغيير أن التغيير ليس تدريجيا ولكنه انقلابي، إذ يكون هناك نظام أو ما أطلق عليه كون Paradigm أي نظام أو نمط معين ثم يحدث اختلال وعدم توازن فيحدث تحولا ومنعطفا في النظام وفي طريقة التفكير. وبالطبع فقد استلهم كون نظريته من اختصاصه في الفيزياء، إذا أن المفاهيم العلمية سرعان ما يحدث فيها انقلاب إذا تبين أن هناك ثغرة في النظرية، وضرب مثالا على ذلك ثورة كوبرنيكوس في علم الفلك التي غيرت علم الفلك الذي كان سائدا منذ أيام بطليموس، ثم تعمم النظرية الصحيحة على الجميع ليقوموا بإلغاء النظام الأول وتبني النظام الجديد. وهذا النظام الجديد يخضع أيضا لنفس العملية، وهكذا تتقدم العلوم، وأبرز مثال على ذلك تحول الفيزياء من النظرية التقليدية إلى النظرية النسبية التي نفت صفة الاستقرار عن المفاهيم التقليدية وأصبحت هذه المفاهيم تعتمد على الظروف المحيطة بها وكل شيء يقاس بالظروف التي جعلته بهذا الكم أو النوع. وكان للنظرية النسبية الأثر الكبير على الصناعة واستكشاف الفضاء.

لم يقتصر فكر كون على الفيزياء بل تعداه إلى المجتمع، فقد وضع فلسفة استمدها من الفيزياء مفادها أن أي نظام سواء كان اجتماعيا أو غير ذلك يحدث فيه اختلال، يستلزم تحولا في هذا&النظام Paradigm Shift إلى نظام جديد أكثر دقة. وبالطبع فهذا ينطبق على مجتمعاتنا أشد الانطباق، فما يحدث في مجتمعنا ليس مجرد اعتلال وسوف يتعافى قريبا، بل هو مرض عضال سوف يقضي علينا قريبا. ولا بد من ثورة فكرية جذرية لإنقاذ هذا المجتمع. وهذا لا يعني ترك المجتمع في حالة من الفراغ الفكري، إذ لا بد من إحلال فكر أكثر دقة وفائدة بحيث يحول دون الارتكاس إلى الوضع السابق.

ويرى كون أن التغير لا يأتي من المجتمع كاملا، بل يأتي من النخب الفكرية، ويكفي أن يكون هناك شخص واحد ليحدث هذا الانقلاب الفكري. يكفي أن يدرك شخص واحد أن ظهور الحكم الديني كان مصطنعا وتم تنفيذه بغاية تدمير الدول العربية وتفتيتها حتى تصبح شبه دول عاجزة عن تحقيق أي شيء وتتفنن في دفن مواطنيها. فلا مجال للانتظار ونحن نرى بلادنا وشعوبنا تضيع. وقد حدث هذا بالفعل وكان بقيادة مصر التي تصرفت بحزم غير مسبوق ضد الحكم الديني ثم تبعتها الإمارات بحظر الأحزاب الدينية ووضعها على قائمة الإرهاب. ونحن بحاجة إلى مزيد من الدول العرب إلى الحذو حذوها لاجتثاث هذه الأحزاب حفاظا على سلامة الأوطان والشعوب. وتخطئ الحكومات التي تنتظر ما سيحدث ومن ثم تقوم بالإجراء المطلوب لأن هذا يعني إعطاء مزيد من الفرص للاختلال لكي ينتشر انتشارا سرطانيا وبعدها يستحيل استئصاله مما يعني وفاة الوطن.