رجال سورية في لبنان
ميشال المر خط الدفاع السوري الأول في لبنان

رجال سورية في لبنان


عدنان عضوم: القضاء في خدمة الطموح(1)


جميل السيد: CIA لبنانية تقبض على أحشاء الأنظمة السياسية(2)


اسعد حردان: العلماني القوي(3)


ناصر قنديل الذي قفز فوق كل الحواجز(4)


كريم بقرادوني .. الرجل الثالث (5)


غازي كنعان .. المايسترو (6)


إيلي الفرزلي.. الولاء غير المشوب بشائبة(7)


سليمان فرنجية: الجغرافية تتحكم في التاريخ(8)


عبد الرحيم مراد العروبي على طول الخط(9)

بلال خبيز من بيروت: في بداية شهر ايلول من العام 1995 خرج وزير داخلية لبنان السيد ميشال المر مطمئناً اللبنانيين ومهدداً ومتوعداً القتلة في مخيم عين الحلوة الذين خططوا ومولوا تنفيذ جريمة اغتيال الشيخ نزار الحلبي. الوزير المر على التلفزيونات يتخذ دائماً صفة القبضاي. يهدد، يتوعد، يوحي ان المعركة شخصية وتخصه، ويعلن انه لا يهزم. يستصغر غريمه ويطلق في حقه ابشع نعوت الاستصغار.

من قيض له ان يسمع الوزير المر للمرة الأولى في ذلك الحين تخيل ان الوزير صاحب يد مطلقة القوة، وانه لن تنقضي سحابة النهار التالي حتى يكون الجناة مخفورين ومساقين إلى السجون. لكن عشر سنوات إلا اقلها مضت وما زال القتلة في المكان نفسه، وما زال المسؤولون اللبنانيون ينسبون إليهم كل الجرائم التي يصعب حلها، وتحول هؤلاء إلى رقم صعب لا تستطيع الدولة اللبنانية ان تشطبه من ديونها. لم يفعل الوزير شيئاً يذكر. اللهم إلا ان حواجز قوى الأمن والجيش المنتشرة على الطريق بين مدينتي صيدا وبيروت اخذت تدقق في هويات المارة والعابرين، وسببت زحمة سير خانقة. كأنما اللبنانيين لا يكفيهم العبث بالأمن، فأضاف الوزير إلى همومهم المتعددةهمّ زحمة السير التي لا توصف. على كل حال لم يمر القتلة على الطريق الذي كان رجال الأمن يوقفون السيارات ويفتشونها عليه. وبقي كلام الوزير كلاماً في الهواء.

ميشال المر ابن بتغرين من اعمال المتن في جبل لبنان، قبضاي. هكذا يريد ان يوحي وهكذا يحب ان يظهر. تصريحاته نارية وخصومه مزدرون. وهو لهذا يبدو على التلفزيونات غير محبوب على الإطلاق. التلفزيون يبث إلى كل انحاء الأرض دفعة واحدة، لا يميز بين اهل المتن واهل الجنوب. لذا يشعر المرء وهو يشاهد الوزير القبضاي يتكلم كما لو ان هذا الوزير لا شأن له في السياسة من قريب او بعيد. فليس ثمة ما يحسن قوله حيال غير المتنيين من اهل منطقته. وزير مناطقي بامتياز.

ليس هذا عيباً في لبنان. سياسيو المناطق كثرة ولا يحصون عدداً. لكن الوزير المر يتحدر من المتن في جبل لبنان. والمتن، لمن لا يعرف طبيعة الجغرافيا السياسية في لبنان، يقع على كتف بيروت. وفيه، كما في بيروت، تصنع السياسة بامتياز. نائب المتن اعلى كعباً من نائب عكار. وقادة البلد عموماً، والمسيحيين منهم خصوصاً يتحدرون من هذا القضاء او من جواره. اليوم ثمة في عالم السياسة اللبنانية اسماء لامعة يتحدر معظم اصحابها من هذا القضاء، من الرئيس الأسبق امين الجميل، إلى الرئيس الحالي اميل لحود مروراً بنسيب لحود المعارض البارز، وغسان مخيبر وريث البير مخيبر في المقعد النيابي الذي شغر بوفاة شيخ الدستوريين.

هذا من احكام الجغرافيا، وعلى علاقة متينة بالاقتصاد. وموارد الاقتصاد اللبناني بالغة التعقيد. للجغرافيا فيها وزن حاسم، فأن يملك المرء عقاراً في بيروت العاصمة او في المتن امر لا يمكن مقارنته بعقار في منطقة العرقوب من اعمال جبل عامل. وميشال المر من صلب المتن ومتنه. متمول كبير ومهندس وصاحب شركات معروف في لبنان. ليس ادل على وزنه الاقتصادي والمالي من "برج المر" الشهير في الحرب الأهلية اللبنانية، وليس أدل على دوره السياسي – الاقتصادي من "طابق المر" الذي سمح بتسوية خلافات البناء فأضاف على الرخص طابقاً جديداً سمي باسمه يوم كان وزيراً للمال.

دخل ميشال المر السياسة نائباً عن المتن شهابي الهوى والميول. وكان فاعلاً في الاقتصاد منذ ستينات القرن الماضي. وتقلب في الحقائب الوزارية طويلاً ومديداً. لكن سنوات سعده الكبرى كانت في زمن الهيمنة السورية على لبنان. فمنذ اقرار اتفاق الطائف لم يبارح المر الحكومات إلا حين خلفه ابنه الياس وزيراً للداخلية في اخر حكومات الحريري. بعدها وقع المحظور، وخلفه في حكومة كرامي المستقيلة سليمان فرنجية، وكان ذلك في بدايات الانحسار السوري بعد التمديد للرئيس لحود في العام 2004.

في انتخابات 1992 و1996 و2000 كان المر وزيراً ومنحازاً على الدوام. في لبنان ارتبط اسمه بتزوير الانتخابات. كان وزيراً للداخلية في المرتين الأخيريتن، وفي 1992 كان سامي الخطيب الموالي لسورية وزيراً للداخلية في اول حكومات عمر كرامي. تزوير الانتخابات والتلاعب بلوائح الشطب تهمتان وجهتا له في المرتين. وعلى كل حال لا شيء يمنع ان يستمر وزيراً بفعل الدعم غير المحدود الذي تقدمه الإدارة السورية لابن المتن معقل القادة المسيحيين الاستقلاليين ومنبتهم. كان ابنه الياس وزيراً للداخلية في الانتخابات الفرعية عن المقعد الارثوذوكسي الشاغر بوفاة البر مخيبر في ربيع 2002. ابنته ميرنا كانت مرشحة العائلة، واخوه غبريال صاحب محطة ال "ام. تي. في." التلفزيونية خصمها ومرشح المعارضة، اما غسان مخيبر فكان المرشح الثالث والذي نال اقل عدد من الأصوات.

تلك المعركة هزت لبنان عميقاً، وفيها، كان في وسع المرء ان يدرك حجم المتن الكبير في السياسة اللبنانية. اسفرت الانتخابات عن فوز غبريال المر، لكن طعناً قدمته ابنة اخيه المرشحة ضده في فوزه إلى المجلس الدستوري اقام البلاد ولم يقعدها، فذهب المجلس الدستوري الى اصدار حكم بالغ الاشكالية يقضي بفوز غسان مخيبر الذي ما زال يشغل المقعد حتى اليوم. كان قرار المجلس الدستوري في حيثياته يوحي ان البلاد على شفير انقسام حاد ونذر حرب اهلية تتصاعد في الأفق، لهذا ذهب إلى اصدار حكم سياسي وليس قضائياً ، حيث غلّب قيمة السلم الأهلي على منعة القضاء ونزاهته. وذهب المقعد إلى مخيبر منعاً لانتصار طرف على آخر. خصوصاً ان تلك المعركة اثبتت ان القوتين متوزانتين متنياً ولا سبيل لرأب الصدع بينهما.

في المتن واجه ميشال المر قيادات عريقة تحالفت ضده، واثبت كفاءته ووزنه المناطقي. خصومه توزعوا من ميشال عون وتيار القوات اللبنانية، إلى امين الجميل والحزب الشيوعي، وصولاً إلى نسيب لحود وبعض عائلة آل المر. لكن ميشال المر المدعوم من رئيس الجمهورية وهو نسيبه، والمتحكم بآليات الفرز وابنه وزير داخلية، اثبت انه يملك من اسباب القوة ما لا يستهان بحجمها ووزنها.

لكن الرجل الذي واجه هؤلاء جميعاً وعادلهم كفة، ليس سياسياً من طراز رفيع. فهو لم يكن يوماً رجلاً اول بمقاييس الأول في طائفته، من امثال الراحل البير مخيبر وغسان تويني وفؤاد بطرس وايلي سالم على سبيل المثال. كان ولا يزال على الدوام رجلاً محلياً. لا يتجاوز حدود منطقته إلا بحكم مهام منصبه. قبضاي في منطقته، وضعيف لدى عموم اللبنانيين. ولو ان قانوناً للانتخاب اعتمد لبنان دائرة واحدة لخان المر حظه في الفوز على اغلب الظن. كان شهابياً، ثم دعم الرئيس الياس سركيس في زمن الحرب، وسوّق لبشير الجميل رئيساً. ويقال انه دفع بدل انتقال النواب إلى المجلس من جيبه الخاص في جلسة انتخاب بشير. صرح ان كامل الأسعد رئيس المجلس النيابي مع انتخاب بشير فاستدعاه مع بشير ووبخه إلى حد التجريح. وفي عهد امين الجميل رئيساً للجمهورية دعم ميشال المر ايلي حبيقة، وكان واحداً من عرابي وممولي الاتفاق الثلاثي الذي وقع حبيقة عليه في نهاية العام 1985. ويوم حاصر سمير جعجع ايلي حبيقة في المجلس الحربي بمحلة الكرنتينا، كان الياس المر مع حبيقة وقد عرج عليه ليتناولا الفطور، فقامت وساطات لإخراج الرجل من دائرة الحصار.

شكل الاتفاق الثلاثي علامة فارقة في تحولات ميشال المر السياسية. فمنذ ذلك الحين وحتى اليوم لم يغادر المر معسكره ولم يخن اصحابه. كان الاتفاق الثلاثي يقضي بالإقرار بهزيمة القوى العسكرية المسيحية واستحالة امكان تحقيقها نصراً على الطرف الآخر. ورتب ذلك اقرار بضرورة اجراء اصلاحات داخلية تقضم من صلاحيات وامتيازات المسيحية السياسية لصالح الإسلام السياسي. ميشال المر لم يحد عن هذا الاقتناع قيد انملة وان كان لم يجاهر به. لكن سلوكه السياسي كان يبدو كما لو انه يريد ان يجعل المتن ريفاً في السياسة اللبنانية.

كان يواجه بعقلية ابن المنطقة وقبضاي الحي لأنه في نهاية الأمر لم يكن يريد دوراً يتجاوز حدود منطقته. وبخلاف ابناء منطقته من السياسيين كان المر على طول الخط يدافع وينحو نحو انكفاء المتن إلى ريف الحياة السياسية وهامشها، وهو امر تحول دون تحقيقه عوامل كثيرة.

فالمتن من اغنى مناطق لبنان موارد ثقافية وسياسية وعمرانية واقتصادية. فضلاً عن كونه مركزاً اساسياً من مراكز ومعاقل المسيحية السياسية. وهذا في حد ذاته كفيل بجعل ساسته يولون الشأن اللبناني العام عناية خاصة. فنائب المتن ليس مثل نائب عكار. لا يستطيع ان يعمل في السياسة متكلاً على منطق الخدمات. ثمة مهمة تناط به على الدوام تتعلق بتأسيس او المساهمة في تأسيس هوية لبنان، الملتبسة على الدوام، ودوره في المنطقة، الرجراج والمتغير بحسب الظروف. ليس نائباً عن منطقة بل هو نائب عن الأمة. عن شق اساسي من شقوقها المتعددة. حين يضرب المتن فإنما يكون قد اضرب نصف لبنان. لكن ميشال المر نزع على الدوام إلى ترك العمل في هذه الشؤون والانصراف إلى الشؤون المحلية الضيقة.

لهذه الأسباب بدا المر بالغ الأهمية للسياسة السورية في لبنان، فقوته في المتن تثبت ان المعارضة لا تستطيع ان تتحصن في منطقتها فكيف في كل لبنان. وتنطحه لمنازعتها ومعارضتها يجعل من اقطابها اقل وزناً مما هم عليه حقاً. لذلك بدا المر كما لو انه يسلم اوراقه السياسية بعد انتخابات 2002 الفرعية. لم يأت وزيراً في حكومة الحريري الأخيرة وحل ابنه محله. حفظ مقام العائلة، لكن سياسة ميشال الأب هزمت بالضربة القاضية.

في هذه الانتخابات اتضح للقاصي والداني ان المتن ليس قضاء عابراً وحسب، وان الخلاف فيه هو خلاف لبناني عام، يتعلق بهوية لبنان واستقلاله وعلاقاته بجيرانه. ليس خلافاً مناطقياً ولا يمكن ان نحكمه بمنطق العشيرة والمنطقة والعائلة. ويوم قرر الوزير سليمان فرنجية ان يتسلم حقيبة الداخلية في حكومة كرامي المستقيلة لم يجد رئيس الجمهورية بداً من الانصياع لرغبته والتضحية بصهره زوج ابنته ليكسب سنوات حكمه المتبقية.

كان ميشال المر حاجزاً امام انطلاق المعارضة اللبنانية إلى فضاء لبنان الأوسع بوصفهم ينطقون باسم شطر لا يستهان به من اللبنانيين، وهذا ما اثلج قلوب المتحكمين في السياسة اللبنانية من القادة السوريين. لكن خدمات ميشال المر لم تقف عند هذا الحد. ثمة من يقول في لبنان ان الأب والأبن اللذين تعاقبا على إدارة وزارة الداخلية في لبنان سنوات عديدة ساهما في تجنيس الألوف من الضباط السوريين والمواطنين في دوائر انتخابية من معاقل المعارضة الأساسية، مما يخل بتوازن ديموغرافي – سياسي ويجعل القوة الانتخابية تختلف تمام الاختلاف عن القوة السياسية. وثمة من يتهمهما على الدوام بتزوير نتائج الانتخابات والتلاعب فيها لمصلحة حلفاء سوريا وهذا أمر يصعب على اي شخص في لبنان ان لا يصدقه.

ميشال المر كان يدعو في سياسته، في نهاية المطاف، المسيحية السياسية إلى الارتداد نحو المناطق والعزوات والحمولات ويحجز عن اقطابها امكان تحولهم زعماء كباراً في لبنان. لكن المعارك التي خاضها ضدهم اسفرت عن قيادات من وزن نسيب لحود عبرت كل الحواجز واحتلت موقعاً في الفضاء اللبناني بامتياز. والأرجح انه منذ ان انكسر حاجز المر، في كنف المسيحية السياسية في لبنان، وازيلت عقبته، حتى بدا وكأن ايام الهيمنة السورية في لبنان اصبحت معدودة. كان المر حاجزاً وخط دفاع اول، وبتجاوزه وجدت الإدارة السورية نفسها وجهاً لوجه امام اعتراضات من كل حدب وصوب.