نظرة وتحقيق في بعض المواقف

لقد كتب مسلم بن عقيل إلى الحسين يستقدمه الكوفة (أما بعد: فإن الرائد لا يكذّب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجِّل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلهم معك، وليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى والسلام) 43 ــ الطبري 6 / 248 ــ
وقد تحرّك الحسين من مكّة إلى الكوفة على أساس هذا التقييم الذي جاءه من مسلم، ويبدو أنّ أمر الإمام بالتوجّه إلى الكوفة قد عُرِف لدى الكثير من الوجوه الكبيرة في المجتمع الحجازي آنذاك، ولا نعرف كيف تسرب خبر الإمام إلى بعض هذه الوجوه، وهنا يذكر لنا المؤرخون جملة مواقف ينبغي الإحاطة بها.

أولاً: عبد الله بن عباس
سبق وأنْ استعرضنا موقفاً لابن عباس، وقد قيل أنًَّ هذا الموقف كان في إثناء عودة أبن عباس من مكّة إلى المدينة، حيث التقى الحسين وجرى بينها الحوار السالف، وقلنا في وقتها: أن الرواية ضعيفة، ولكن مصادر أخرى تذكر لنا موقفاً آخر، أنه في مكّة تحديدا، فعندما عَلِم أبن عباس أن الحسين كان عازماً على المسير إلى الكوفة جاءه مسرعاً ليحذّره من هذا المسير، ففي الطبري (أنَّ حسيناً لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس، فقال: يا أبن عم، أنك قد أرجف الناس إنّك سائر ألي العراق، فبيِّن لي ما أنت صانع؟
قال: إني قد أجمعت ألمسير في أحد يوميِّ هذي إن شاء الله تعالى، فقال أبن عباس: فإني أعيذ بالله من ذلك، أخبرني رحمك الله ! أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم؟ فإن كانوا فعلوا ذلك فسر إليهم، وأنْ كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم قاهر لهم، وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أنْ يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونوا رشد أشدَّ الناس عليك، فقال الحسين: إنّي أستخير اللهوأنظر ما يكون) ويمضي الطبري في روايته (فلّما كان من العشي أو من الغد، أتى الحسين عبد الله بن عباس فقال: يا ابن عم أنّي أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، أن أهل العراق قوم غدر فلا تقربهم، أقم بهذا البلد، فإنّك سيِّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلاّ أن تخرج فسر إلى اليمن، فأنّ بها لق حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل وبعث دعاتك... فقال له الحسين: يا ابن عم، إنّي والله لأعلم أنّك لي ناصح مشفق، ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير، فقال له أبن عباس: فإن كنت سائراً فلا تسر بنسائك وصبيتك، فو الله أنّي لخائف أن تُقتل كما قُتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه...)44 ــ الطبري 6 / 307 ــ وفي تاريخ أبن عساكر إن الحسين أجاب أبن عباس (يا ابن عباس أنّك شيخ قد كبرت)45 ــ 4 / 202 ــ.
نستفيد من هذا النص إن ابن عباس لم يؤمن بمشروع الحسين، بل يجد فيه خطراً عليه وبقية أهل بيته، ولم يكن صاحب رأي طيِّب بأهل الكوفة، وقد انطلق في تقييماته من مقتربات سابقة، ونرى الحسين عليه السلام يتجنّب النقاش مع ابن عباس، ويحاول جهد الإمكان أن يصرفه عن أثاراته، ولم يتعرّض الحسين لأهل الكوفة بسوء، بل كانت كتبهم التي وصلته هي بعض جوابه على ابن عباس (وهذه كتبهم معي، وهذا كتاب مسلم باجتماعهم)، ولم يعالج اتهامات ابن عباس بحق هذه البلدة وأهلها، ممّا يشير إلى وجهة نظر متباينة.
لقد كان ابن عباس ـ حسب هذه الرواية ـ ملاحا، فيما كان الحسين عليه السلام يجيبه بصيغ ستشم منها مشاغلة ابن عباس، كقوله عليه السلام (أنّي أستخير الله وانظر ما يكون)، وقوله كما في رواية الدينصوري (يا بن عم سأنظر فيما قلت...) 46ــ ص243 ـ أنّه جواب مشاغلة وليس جواباً تصميميا، وأمَّا ما ينقله أبن عساكر من أنّ الحسين أتهم ابن عباس بالكبر و الخرف، فان ذلك لا ينسجم مع أخلاق الحسين.
إنّ الحوار ـ لو صحّت الراوية ـ يكشف عن إصرار الحسين، وفي دلائل الإمامة للطبري الشيعي أنّ ا لحسين أجاب ابن عباس قائلا (يا بن عباس أما علمت أنْ منعتني من هناك فإن مصارع أصحابي هناك ــ ولما سأله عن مصدر علمه هذا قال ــ بسرٍّ سُرِّه لي وعلم أعطيته) 47 ــدلائل الإمامة ص 72 ــ ومن الواضح الزيادة على أصل الرواية، وهي زيادة تهدف إلى تأسيس المأساة كقدر رباني نافذ، وتشييد ذلك على علم خفي تلقّاه الحسين من مصاد ر ذات صلة بالغيب، فهناك محاولة لبناء تراجيدية حزينة إلهية الطابع، غيبية الهوية، ولم يبين الطبري الشيعي هنا مصدره للأسف الشديد، وفي رواية معالي السبطين وناسخ التواريخ (يا ابن عباس لا تلحّ عليّ بعد هذا، فأنّه لا مرّد لقضاء الله عزّ وجل) 48 ــناسخ التواريخ 2 / 122 ــ وفي الحقيقة أنّا لا أسمي هذه الإحالات مصادر بالمعنى الدقيق للمصدر، فهي متأخرة، ومكتوبة ليست كتاريخ بل كتراجيديات مسبوكة حسب فكرة وهدف مرسومين بشكل واضح.

ثانياً: محمّد بن الحنفيِّة
لقد مرّ بن سابقاً موقفه في المدينة، وسبق أن ناقشنا هذه القضية في وقتها، ولكن بعض المصادر تذكر لنا موقفاً آخر لمحمّد بن الحنفية من تحرّك الحسين عليه السلام، أي في مكّة، وقد نصحه بعدم الخروج إلى الكوفة، مستعيداً ذكريات أبيه وأخيه مع هذه البلدة، ويقال أنّ الحسين أجابه أنّ جده رسول ا لله جاءه في عالم الرؤيا وأخبره (أنّ الله شاء إن يرى نسوتك سبايا مهتكان يُساقون في أسر الذل...) . ولا أريد ألإشارة إلى موطن (التصنّع) في هذه الرواية، خاصّة وإنّها تحمل جواباً على سؤال مُضمر واستفهام لابد أن يُطرح، الأمر الذي يثير الشكوك حولها جملةً وتفصيلا، لا أريد أن أقوم بهذه العملية، إذ هناك ما هو أبلغ من على بطلانها من الناحية ا لتاريخية، فهي تفتقر إلى السند المعتبر الموثق ــ مطهري، الملحمة الحسينية 3 /364 ــ ولست أدري لماذا زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ا لحسين في تلك الليلة ليأمره بالتوجه إلى العراق ليقتل هناك هو وأهله، ولتُسبى نساؤه وعياله، فيما رسول الله كان قد ربّى الحسين وعلي قد ربيّا الحسين على هذا المعنى منذ الصغر، وكان هو يعلم بزك حسب الروايات الغيبية، ولو كانت هذه الرؤية صحيحة لما تخلّف محمّد بن الحنفية على درجة كبيرة من الاحتمال، ولما منع ابنيه من ذلك.
لقد كان محمّد بن الحنفية على خلاف مع الحسين في خروجه إلى الكوفة، وقد أعلمه ذلك صراحة (هذا ليس برأيي)، وأكثر من ذلك، لم يبعث مع الحسين أحداً من ولديه.
إنّ محمّد بن الحنفية لم يكن يؤمن بعمل الحسين، ولم تكن لديه قناعة بذلك، وما قيل من أنّ الحسين عليه السلام وضعه عيناً على الأمويين في المدينة رواية ضعيفة لا يعتمد عليها، خاصّة إذا عرفنا أنّه لم يبعث من الحسين أحداً من ولديه.

ثالثاً: عبد الله بن جعفر
كان عبد الله بن جعفر أكثرهم سعياً لمنع الحسين عليه السلام من التوجّه إلى العراق، لانّ في ذلك هلاكه واستئصال بيته، وقد بعث برأيه هذا برسالة إلى الحسين مع ابنيه، بل أكثر من هذا، أخذ له الأمان من والي مكّة 49 ــ الكامل 3 /402 ــ للإقامة بها، ويُقال أنّ الرسالة هذه استلمها الحسين وهو في طريقه إلى العراق، ولكن الحسين رفض الاستجابة، ومما أجاب بت (أني رؤيا، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بأمر، وأنا ماض له، ولست بمخبر بها أحدا، حتى أُلاقي ربي...) 50 ــ البداية والنهاية 8 / 163 ــ وهذه الرؤيا إذا كان سندها صحيحاً لا تضيف أيَّ معلم على طريق هذه الحركة، سبباً أو غاية، مجرىً أو محتوىً، وذلك لأنها مجهولة المضمون، على أنّ التاريخ لا يشيّد بالأحلام والرؤى.

الحلقة الرابعة

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة