ظاهرة الأسماء المستعارة عند القراء المعلقين في الصحافة العربية الإلكترونية تغري بالبحث عن أسبابها وأسرارها. فما الذي يدفع المعلق الى ان يستعير اسم امرأة مثلاً أو يتخذ اسماً له غير اسمه الحقيقي أو أي quot;لقبquot; له معنى أو لا معنى له؟ خاصة اذا كان احد الدوافع السوية للنشر هو ان يُرى رأيه واسمه منشوراً؟
تاريخيا .. ظاهرة الأسماء المستعارة في الصحافة العربية بوجه عام و الورقية بصفة خاصة بدأها كبار الكتاب من المفكرين والنقاد والأدباء. ففي العام 1911 نشرت مجلة quot;العلمquot; التي كان يحررها عبد العزيز جاويش مجموعة مقالات لاذعة تهجو اسلوب مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابة رواياته ومقالاته، تحت اسم quot;ازهري ناشىءquot;
وقد أحدث ذلك التوقيع بلبلة وسط الازهريين لمدة عام كامل، وثارت الشكوك حول بعضهم فأخذوا يفتشون عن صاحب المقالات، خصوصاً أن الاستاذ المنفلوطي ازهري كبير لا يليق ان يسخر منه quot;ازهري ناشئquot;.
ودرءاً للفتنة ذهب لمقابلته شاب اسمر اللون نحيف وضرير، وقال له: quot;انا طه حسين الذي اهجوكquot;، فعاتبه المنفلوطي بشدة، فرد عليه طه حسين معتذراً: quot;ما اجترأت على ذلك الا طلباً للشهرةquot;.
والواقع ان طه حسين كان يستند في ذلك الى تقليد ممتد في الصحافة العربية، إذ يحكى عن يعقوب صنوع انه ذهب ذات يوم الى الافغاني ومحمد عبده ليستفتيهما في اختيار اسم رنان لمجلته، وحين عجزا عن ذلك، تركهما ومضى الى موقف الحمير ليمتطي حماراً يوصله الى داره فاختلف الحمّارون إذ راح كل منهم يدعي أن الدور دوره في توصيل الزبائن، وعلا صوت احدهم قائلا: انا اول من اصطدت quot;أبو نظارةquot; فراق لصنوع هذا الاسم وأصدر في الرابع من يونيو العام 1880 مجلته quot;ابو نظارة زرقاءquot; التي راح ينتقد فيها احوال مصر الاجتماعية دون زيف او رياء بأسلوبه الساخر، وهو يمهر مقالاته تارة بـ quot;ابو نظارةquot; وتارة اخرى بـ quot;ابو صفارةquot;.
اما quot;الشيخ حسان الغزاريquot; فهو شخصية مستعارة ابتكرها الشيخ مصطفى عبدالرازق، وراح يمهر بها مقالاته النقدية ضد quot;الجامدين من شيوخ الازهرquot; وخصومه بوجه خاص، وذلك في مجلة quot;السفورquot;. واللقب الثاني للشيخ مصطفى عبد الرازق، كان quot;باحث فاضلquot; واختاره له احمد حسن الزيات صاحب مجلة quot;الرسالةquot; ليخفي وراءه شخصية الشيخ عبد الرازق الذي قام بالرد على اسماعيل ادهم في معركته الشهيرة مع quot;فيلكس فارسquot; حول الثقافة العربية، وذلك بايعاز من صديقه الشيخ مصطفى المراغي والدكتور محمد حسين هيكل خشية ان يزج باسم الشيخ عبد الرازق صاحب المكانة الرفيعة في الاوساط الدينية والثقافية في هذه المعركة التي كانت محفوفة بالمخاطر وقتئذ.
الشيء نفسه فعله اسماعيل مظهر الذي نحت اسم quot;فيلوزوفquot; من كلمة quot;فيلسوفquot; ، وكان يوقع به مقالاته في مجلته quot;العصورquot; العام 1927 التي كانت تنتقد المشايخ الذين يقفون في وجه حرية الفكر والمفكرين.
لم تُستثنَ المرأة من هذه الظاهرة فقد ظهرت ملك حفني ناصف 1886- 1918 في فترة لم يكن المجتمع المصري مؤهلاً فيها لاستيعاب اسم امرأة على صفحات الدوريات 1907، لذا اختار لها استاذ الجيل احمد لطفي السيد وشبلي شميل لقب quot;باحثة الباديةquot; كي توقع به اعمالها الادبية في quot;الجريدةquot;، وهي المقالات التي عرفت فيما بعد بـquot;النسائياتquot;
وسبقتها الى ذلك عائشة التيمورية 1840- 1902 أو quot;شاعرة الطبيعةquot;. وهي الصفة التي اطلقتها عليها الانسة quot;ميquot; في دراستها التي اعدتها عن ديوانها التركي quot;قاسمة أو كشوفةquot;.
وحين تغيرت نظرة المجتمع الى المرأة في النصف الثاني من القرن العشرين، حدث العكس تماماً اذ اصبح اسم المرأة ممهوراً في الصحافة اشبه بالفاكهة الطازجة وسط مائدة متخمة بالرجال، فمال بعض الكتاب الى استعارة اسماء النساء وألقابهن طلباً للنشر، مجرد النشر. ولعل قصة الكاتب الصحافي ابراهيم الورداني خير دليل على ذلك، فقد ارسل مجموعة قصص الى عدد من المجلات والصحف المصرية والعربية ولم تنشر منها قصة واحدة، فتفتق ذهنه عن فكرة مهر القصص ذاتها باسم quot;مي الصغيرةquot; فاذ به يفاجأ بأنها نشرت جميعاً بل تناولها النقاد بالتقريظ والمدح.
كما نشر غالي شكري اولى مقالاته بأسماء زوجته وبناته، اما اشهر كاتب استعار اسم امرأة فهو الصحافي والمذيع التلفزيوني مفيد فوزي صاحب برنامج quot;حديث المدينةquot;، فقد ظل يكتب باباً اسبوعياً في مجلة quot;صباح الخيرquot; منذ ثلاثين عاماً تحت اسم quot;نادية عابدquot;، ولا يزال يكتبه الى اليوم.
كما كتب كل من فتحي غانم ورشاد رشدي مجموعة مقالات وافتتاحيات في مجلة quot;آخر ساعةquot; التي تصدر عن مؤسسة quot;اخبار اليومquot; تحت اسم quot;ليز ولينquot; وحين كان يكتب انيس منصور عن الازياء في مجلة quot;الجيلquot; كان يوقّع مقالاته تحت اسم quot;سلفانا مانيلليquot;.
لكن تغير نظرة المجتمع الى المرأة وانتشار اسماء مثل: هدى شعراوي وسهير القلماوي ولطيفة الزيات ونوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وغيرهن من الكاتبات والاديبات، لم يمنع استخدام المرأة هي الأخرى للأسماء والألقاب المستعارة فقد كانت الدكتورة عائشة عبدالرحمن تنشر مقالاتها في جريدة quot;الاهرامquot; تحت اسم quot;بنت الشاطئquot;.
وللحديث بقية ....