ثلاث رسائل مهمّة

ان تتبع مسار الخطاب الحسيني الشريف يؤول إلى توزيعه على ثلاث مراحل، وهي على التوالي ما يلي: ــ

المرحلة الأولى: تبدأ برسالته الجوابية على أهل الكوفة وحتى إعلامه باستشهاد مسلم بن عقيل على وجه اليقين والثبات.

المرحلة الثانية: تبدأ منذ إ حاطته الواثقة باستشهاد مسلم وحتى نزوله كربلاء المقدسة بصحبة آله وأنصاره حيث كان الحرّ بن يزيد الرياحي يلازمه من القادسية إلى محطِّه الأخير.

المرحلة الثالثة: وهي التي تستغرق الفترة الزمنية من 2 / محرم إلى لحظة استشهاده الكريم.
ولا مراء أن لكل مرحلة من هذه المراحل خطابها المتميّز الى حد كبير، ولكن ينبغي ان لا نتعامل في تحديد معالم الخطاب في ضوء التقديرات الحاسمة، لا ننتظر أن يسيطر نموذج معيَّن على كل مرحلة من هذه المراحل بدرجة رياضيّة متّسقة، لأن تيار الحياة لم يكن محكوماً بمثل هذه الاتساق الجامد، والخطاب وخاصّة السياسي منه يخضع لكثير من الظروف ويتأثر بالمفاجآت والمفارقات والطروءات.

دشّن سيدنا الكريم خطابه في المرحلة الأولى برسالته الجوابية لأهل الكوفة، أنّها حقاً رسالة تكشف عن تبلور الفكرة واستنهاض المشروع، وكانت تركّز على تعريف الإمام، وبيان مهماته (... فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط الدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله...) 54 ـ الطبري / 6 274 دار الفكر ــ
والرسالة برواية أبي مخنف، حدّثه بها الحجاج بن علي، عن محمّد بن بشر الهمداني، ومهما كان السند فإن الرواية تتناسب مع شخصية الثائر وطبيعة التربية التي تلقّاها، ومشروع أهل الكوفة، وهوية الحاكم المتسلّط، وحاجات الناس، وظروف الكوفة، والعالم الإسلامي آنذاك.

الحسين بهذا الجواب يكون قد وضع نقطة انطلاقه في إطار من الحقيقة الملحّة الواضحة، تلك هي القيادة الفكرية والسياسية للأمة . وهذه الرسالة الجوابية تتكامل في مضمونها مع رسالته سلامه الله عليه إلى أهل البصرة ، فقد أرسل سلام الله عليه رسالة خاصّة لأهل البصرة وهو في طريقه إلى الكوفة جاء فيها (... وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن السنّة قد أُميتت وإنّ البدعة قد أُحييت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد) 55 الطبري ــ 278 ــ فمن الواضح هناك علاقة تكامل حيّة بين الرسالتين، إنّ هناك انحرافا خطيراً يجب تقويمه، الأمر الذي يستدعي قيادة واعية تسير في المجتمع بسيرة جديدة، وكلاهما تنسجمان مع رسالته لأهل الكوفة التي بعثها مع قيس بن مُسهر الصيداوي فيما بعد (... وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذيا لحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فأكمشوا أمركم وجدِّوا،فإني قادم عليكم في أيامي هذه إنْ شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) 56 ــ الطبري 319 ــ كان ذلك من (بطن الرمّة) وهي منطقة....
الرسائل الثلاث كلها برواية أبي مخنف، وجميعها تنسجم مع بعضها، وتحمل بصمات الحسين الروحية والفكرية والنهضوية، يمكن الاطمئنان إليها بدرجة لا بأس بها، فهي ليست عارية من السند، وهي تنسجم وتتماهى مع ثقافة الحسين وتجربة الحسين وتاريخ العائلة التي ينتسب إليها.
وقد يسال سائل عن موقع الخطبة المشهورة على الألسن (خُطَّ الموت...) من هذه الرسائل الثلاث، حيث تصطدم بروح المشروع، وتنحرف به إلى مهاوي العدم والسلب والضياع، إلاّ انّ كونها ضعيفة السند متهاوية المضمون ينقذ المشروع من هذا المصير العدمي ـ وسنعالج الرواية المذكورة قريبا ـــ وقد تستمر غريزة السؤال لتشمل رسالتيه عليه السلام إلى أخيه محمّد بن الحنفية وهو يغادر المدينة إلى مكّة، وبصراحة إن كلا الرسالتين كما قلنا لا تتمتعان بموجبات القبول، لأنهما جاءا في كتاب الفتوح، ونقلتها المقاتل فيما بعد، ولم تردا في المصادر المعتبرة، رغم أنّ رسالته (لم أخرج أشرا ولا بطرا...) تصبُّ في سياق المشروع النهضوي للحسين.
إنّ كل ألوان البيان المستلب المنسوب للحسين عليه السلام ذي الطابع الغيبي، المشبَّع باليأس والصور المأساوية لا أساس لها من سند متين أو فلسفة ناضجة، وذلك حتى وصول خبر مسلم بن عقيل على أقل التقادير، وأن جواب الحسين على المعترِضين بكتب أهل الكوفة تنسف كل هذه الألوان من الخطابات الميِّتة اليتيمة.

خطاب الموت!
تذكر بعض المصادر المجهولة السند أن الإمام الحسين بعد أ، خرج من مكّة باتجاه العراق قال (الحمد لله ما شاء الله ، ولا قوّة إلاّ بالله، خُطَّ الموت على ولد بني آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني الى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع ملاقيه، وكأن أوصالي تقطّعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلاء، فتملأن مني أكراشاً حوفا وأحوية سغبا) 57 ـ مثير الاحزان 59 ــ

لا أعتقد أن مثل هذا الخطاب يحمل دلالة واحدة على الثقة به، والاطمئنان أليه، ولا يمكن أن يصدر مثل هذا الخطاب عن الحسين وهو يخرج من مكّة إلى العراق، أنّه خطاب مأساوي فيما جماهير الكوفة في انتظاره، أيُّ قائد يسوقه استعجال الأمل ا لمقلوب ؟ وهو على أمل اللقاء بقواعد شعبية عريضة، كتبت إليه وكتب إليها على هد ف واضح هو الحكومة العادلة، وإنّ هذه الخطبة المزعومة لا تنسجم أبداً مع تضاعيف المضامين الرائعة ا لتي أدرجها في رسالتيه الى الكوفة والبصرة، أنّ الخطاب المزعوم يقتل كل إستعداد، ويحذف كلَّ أمل، فيما يكتب لأهل الكوفة (... فاكمشوا أمركم، وجدّوا فإني قادم عليكم...)، هذا وقد أثبت كاتب إيراني أنّ هذه الخطبة خالية من كل سند ــ 58 الملحمة الحسينية 3 / 199 ــ وليس سرّاًَ ان الحسين لم تقطّع أوصاله عسلان الفلاة ، ولم تتمكّن من أجزاء جسده الطاهر أكراش جوفاء ولا أحوية سغبا.

يتبع

الحلقة السادسة

الحلقة الخامسة

الحلقة الرابعة

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة