رابعاً: الكسر والجبر في الخبر التاريخي

تروي بعض المصادر موقفاً غير الذي سبق لعبد الله بن عمر من الحسين وحركته، أي غير ذلك الذي مضت الإشارة إليه، حيث يحوم حوله بعض الشك لأسباب سندية وروائيِّة كما بيّنا.الموقف الجديد كما تروي هذه المصادر كان في مكّة بالتحديد، أو في طريق سيدنا وأمامنا الحسين إلى العراق، وأقدم مصدر نلتقي به في استفادة الموقف المذكور هو الفتوح لأبن أعثم الكوفي، فيقول هذا المؤرخ ــ ويشكك بعضهم بصفته التاريخية ــ ان الحسين عندما حلَّ مكَّة ا لمكرٍّمة كان فيها كل من عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وأن الأول دخل على الحسين وألح عليه بالعودة إلى المدينة، مذكِّراً أيِّاه بسوء أخلاق بني أُميَّة وقسوتهم وظلمهم، ويذكر المصدر أنَّ الحسين عليه السلام حذَّر عبد الله بن عمر من عدم نصرته، وممّا قال له في هذا الخصوص (إنَّ من هوان الدنيا على الله أنّه أُتي برأس يحي بن زكريا عليه السلام إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، والرأس ينطق بالحجّح عليهم، أما تعلم أبا ا عبد الرحمن إن بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس سبعين نبيا؟ ثمَّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كلهم كأنهم لم يصنعوا شيئا ً، فلم يُعجَّل عليهم، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر، أتق الله أبا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي واذكرني بصلاتك، فو الذي بعث جدّي محمّداً صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً، لو أنّ أباك عمر بن الخطاب أدرك زماني نصرني كنصرته جدي، يا ابن عمر! فإن كان الخروج معي يصعب عليك ويثقل فأنت في أوسع العذر، ولكن لا تتركنَّ لي الدعاء في دبر كل صلاة) 51ــ5 / 25 ــ

إنّ ابن أعثم لم يبيّن لنا مصدره في استفادة هذا الحوار بين الحسين وعبد الله بن عمر، وهو حوار مرفوض بطبيعة الحال ولو في بعض أجزائه لدى المؤرخين الشيعة من ذوي الاتجاه الصلب، لأسباب لا أظنها خافية، ومن هنا استغرب أن يستشهد بعض الشيعة بهذا النص، حيث يحذف بعضهم النصرة التاريخية من قبل عمر للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، تماماً كما يحذفون الاستشهاد بسيرة الخلفاء الراشدين في بيان الحسين الأول (إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي...)، ومن سخريّة القدر أن كلا الروايتين يرويهما ابن أعثم هذا، وهو حريص من خلال سرده (الحكاواتي) على تمتين العلاقة وتجسيرها بين الحسين والخلافة الراشدة بشكل وآخر، ممّا قد يشي عن هدف أخلاقي مُضمر في أعماق الرجل.

الرواية تتشكَّل من كسر وجبر، فإن بداية الرواية تحمل إدانة صريحة لعبد الله بن عمر فيما إذا لم ينصر الحسين عليه السلام، ولكن هذا الكسر تمّ جبره، فعبد الله بن عمر يمكنه أنْ يعوّض عن هذا التقصير بالدعاء، وبذلك تكون المعادلة قد تأسست على عنصرين متكافئين بدقة متناهية، ومؤسِّس المعادلة هو الحسين عليه السلام، إذْ جاء الكسر والجبر على لسان الحسين بالذات! وبهذا تتّضح المحاولة العلاجية المصنوعة، ولكن لا ننسى أنّ الرواية شرّعت مجال التبرير على أوسع أبوابه، فإن فرصة الاعتذار متوفّرة، فالحسين قال لابن عمر بأنّه في أوسع العذر فيما كان خروجه مع الحسين صعبا، وقد جاء ذلك على لسان الحسين هو الآخر!
الكسر والجبر في الخبر التاريخي (فن) دقيق، يلجأ إليه في كثير من الأحيان المؤرّخون ذوي النزعة التوفيقية انطلاقا في كثير من الأحيان أيضا من تبريرات عقدية، والخبر الذي مضى من نماذج هذا الفن الدقيق، وكان الراوي الكبير ابن مخنف دقيقا في الاستفادة من هذا الفن في تعرضه لأحوال سيدنا علي بن الحسين في حضرة عبد الله بن زياد، كما سوف نأتي على تفصيله إن شاء الله تعالى.

إنًَّ عبد الله بن عمر هنا (تموضع) في نقطة وسط، من الصعب إدانته ومن الصعب مدحه، ولا شك انّ كونه من التابعين وابن صحابي معروف من دوافع رسم هذه المعادلة الحذرة.
إنّ مثل هذه الرواية لم ترد في المصادر الأخرى، بل هناك روايات من جنس أخر، ففي تاريخ ابن عساكر المتوفي سنة 571 للهجرة نقرأ (أخرج البيهقي، عن الشعبي: لما قدم ابن عمر المدينة أُخبر أنَّ الحسين قد توجّه إلى العراق، فلحقه على مسيرة ليلتين أو ثلاث من المدينة، فقال أين تريد؟ ومعه طوامير وكتب. فقال لا تأتهم، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال: إنّ الله عزّ وجل خيّر نبيه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، ولم يرد الدنيا، وأنكم بضعة نبيكم وأمته، لا يليها أحد منكم أبدا، وما صرفها الله منكم إلاّ للذي هو خير منكم فارجعوا، فأبى، وقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فاعتنقه أبن عمر، وقال: أستودعك الله من قتيل، وكان ابن عمر يقول: عجّل الحسين قدر، والله لو أدركته ما كان ليخرج إلاّ أن يغلبني، ببني هاشم فتح وببن هاشم ختم، فإذا رأيت الهاشمي قد ملك فقد ذهب الزمان)52 ــ4 / 332 ــ

مقارنة بسيطة بين رواية ابن أعثم ورواية ابن عساكر عن البيهقي تكشف عن خلاف كبير في المكان والزمان والمضمون، على أنّ التدقيق في رواية الشعبي توحي بأنّ الحسين محل اتهام ونقد ولوم، وانّ عبد الله بن عمر كان ثاقب الرؤية صوفي الموقف، وبالتالي فالرواية بمثابة دفاع باطني عن عبد الله بن عمر، في حين رواية ابن اعثم الكوفي تحاول أن توازن، أي تعتمد فن الكسر و الجبر!

الرواية عن الشعبي موجودة في النهاية والبداية أيضا 8 / 162، وهناك مفارقات أخرى أيضا، ولكن حصيلة الرواية إن الحسين كان على خطأ في قراره الذهاب إلى العراق، وأن عبد الله بن عمر كان ثاقب الرأي، يستطلع الغيب بدقة ومعرفة، على أنّ الشعبي كان زبيريِّاً ثم صار أمويِّاً، ولم ينصر الحسين عليه السلام، وله روايات سلبيّة في علي، وكان نديما للخلفاء أتهمه الجاحظ بالسرقة، فربما اختلق هذا الحوار ليبرّر موقفه المتخاذل، هذا ورواية ابن عساكر وابن كثير منقطعة السند كما هو واضح.

المعالجة الواقعية
لقد كان هؤلاء وغيرهم على خلاف في الرأي مع الحسين في خصوص ذهابه إلى الكوفة، بعضهم مع إصراره على عدم البيعة، ولكن من دون الصدام بالسلطة، وإذا كان لابدّ من ذلك فليختر غير الكوفة، وكانت حجّتهم ترتكز على التجارب السابقة، إلاّ أن الحسين كان ومن خلال إجاباته المتعددة لم يذكر أهل الكوفة بسوء، مشيراً إلى كتبهم ورسائلهم، ممّا يشي بأنّه غير مقتنع باعتراضاتهم وتصوراتهم عن الكوفة وأهلها والمسير اليها، يبدو كان قد اتخذ قراره النهائي، وهو ينطلق من تقييم مسلم بن عقيل، ومن حب الكوفيين لأبيه وأخيه، ومن رسائلهم ودعواتهم، وقد أختصر الحسين كل ذلك في جوابه لابن عباس، وهو جواب أورده المسعودي وكثيراً ما يغفله بعض الكتّاب من ذوي الاتجاه الديني الذين يرون نظرية القرار المُسبَق بالشهادة (... إنّي لأعلم أنّك لي ناصح وعليَّ شفيق، ولكن مسلم بن عقيل كتب لي بإجماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي وقد أجمعت على المسير إليهم ...) 53 ــ المسعودي 3 / 55 ــ

هذا هو الجواب الطبيعي الذي ينسجم مع مجريات الواقع ومعطيات الأوضاع في ذلك الوقت، وتُوْعَز أجوبة أُخرى للحسين عليه السلام سبق وأن استعرضناها، وهي ــ إنْ صحّت ــ ذات طابع فنّي، أي أراد الحسين بها سدَّ الطريق على إلحاح وإصرار المُعترضين، وذلك كأن يعدهم النظر في قولهم، وأحياناً يمتدح نصحهم، ولكنّه في الوقت نفسه يؤكد عزمه الذهاب إلى الكوفة ، ومرّة يعلّل ذلك خوف استباحة الحرم، وهو تعليل كما قلتُ لا يبرّر جهة العزم وصوب الحركة، إذ كان في مقدوره أن يختار اليمن، فهي أكثر أمنا، ثمَّ هي روايات تستبطن إدانة ابن الزبير بشكل وأخر، ممّا يدعونا إلى التوقّف، ألاَّ أنّه في حقيقة الأمر كان يريد أن يلتفَّ بشكل وآخر على الرغبة المانعة لدى (الناصحين!)، فهو اقتنع بتقييمات مسلم بن عقيل، إضافة إلى كتب الكوفيين السابقة، فالخروج كان نيَّة مسبقة، وهؤلاء أمله في مشروعه الذي كان ينتظر الفرصة السانحة.

يتبع

الحلقة الخامسة

الحلقة الرابعة

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة