ملاحظات على مشروع "المحكمة الدولية للإرهاب"

أحدث بيان "الليبراليين العرب الجدد" الداعي إلى إنشاء محكمة دولية خاصة بالإرهاب، جدلا واسعا بين المثقفين والكتاب العرب على اختلاف مشاربهم، وحتى بين الليبراليين العرب أنفسهم، ولعل مرد ذلك أهمية القضية التي يمسها الموضوع، وأهمية الرموز الذين شملهم بالإسم نص البيان.
ولأنني أعتبر نفسي معنيا بشكل شخصي وموضوعي بهذا البيان، فقد وجدت من الضروري أن أقول فيه رأيي، الذي أجمله في النقاط التالية:
1-إنشاء محكمة دولية خاصة بالإرهاب، وبالتحديد بمحاكمة المحرضين عليه من رموز التيار الإسلامي الذين وقع ذكرهم بالإسم، ليس له ضرورة من وجهة نظر القانون الدولي، خصوصا بعد توقيع اتفاقية روما الخاصة بإنشاء محكمة جنائية دولية، وقد تأسست هذه المحكمة في لاهاي فعلا، وهي تمارس نشاطها تحت إشراف دولي، ومن خصائصها متابعة ما يمكن تسميته ب"جرائم الإرهاب".
2-إن توقيت الدعوة إلى إنشاء مثل هذه المحكمة في مثل هذا الوقت بالذات، يساهم في تمييع قضية العالم العربي الرئيسية، وهي قضية الديمقراطية، باعتبار أن الظاهرة الإرهابية هي نتاج وجود أنظمة قمعية استبدادية في جل الدول العربية، وليس العكس، وبالتالي فإن معالجة ظاهرة العنف السياسي لا يمكن أن تحدث إلا من خلال تغيير النظام السياسي الطغياني العربي، و إقامة أنظمة ديمقراطية تعددية قادرة على فتح آفاق جديدة أمام المواطنين ونزع مسببات وجود الظاهرة الإرهابية.
3-إن إعلان مثل هذه المبادرة في مثل هذا الوقت أيضا، لا يمكن أن يفيد عمليا إلا الأنظمة السياسية المستبدة في العالم العربي، التي تزعم أنها تحارب الجماعات الإرهابية، في حين أن الحقيقة هي أن سياساتها التي تكبت الحريات وتنتهك الأعراض وحقوق الإنسان وتدوس على رقاب المواطنين، هي التي تدفع بعضهم إلى سلك سبل التغيير اليائسة والرد على إرهاب الدولة بأسلوب إرهابي.
4-كما أن هذا الإعلان سيفيد أيضا في تشجيع السياسة الأمريكية على مواصلة السير في الطريق الخاطئة في مقاومة الجماعات الإرهابية، وهي الطريق الأمنية المحضة، بدل تبني مقاربات أكثر نضجا وعمقا، تتمثل بالأساس في مساعدة الديمقراطيين العرب على إدراك غاياتهم النبيلة، خصوصا في تحقيق ما أصبح يعرف في الأدبيات السياسية العربية المعاصرة، ب"الاستقلال الثاني"، أي هز عروش الطغيان وإقامة أنظمة العدل والحرية والتعددية والمساواة.
5-إن مشروع الدعوة إلى إنشاء محكمة دولية خاصة بالإرهاب، بدا لي شبيها بمشاريع إقامة الدعاوى القضائية في مصر ضد بعض المفكرين الليبراليين من أمثال نصر حامد أبو زيد وغيرهم، حيث يجري تحويل الخلافات الفكرية والسياسية من ساحة السجال الفكري والايديولوجي إلى أروقة المحاكم، وفي ذلك منزلق خطير لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين مختلف التيارات السياسية والفكرية الناشطة في الساحة العربية، سواء داخل العالم العربي أو خارجه.
6-لقد عرفت الاستاذ العفيف الأخضر، وهو أحد كتاب البيان المذكور، صاحب خصومة فكرية وسياسية شديدة مع الحركات الإسلامية بشكل عام، وصاحب نظرية أن "الإسلاميين كلهم من طينة واحدة"، والرأي عندي أن الأستاذ الأخضر قد أثر بمواقفه الراديكالية على كل من المفكر المحترم الدكتور شاكر النابلسي والوزير المقدر الدكتور جواد هاشم، وجرهما معه إلى تبني النظرية الأمنية المحضة في التصدي لظاهرة عنف الجماعات الإسلامية، وهي نظرية فاسدة وفاشلة كما أسلف، لأنها تخضع الموضوعي للشخصي، وتقحم الآلة السلطوية القمعية في معالجة آفة الإرهاب، التي هي بالأساس نتاج لهذه الآلة.
7-إن وضع التيار الإسلامي كله في بوتقة واحدة والحكم عليه بشكل عام، لا يتفق مع الموضوعية من جهة، مثلما لا يفيد قضية العرب الأساسية، وهي قضية الديمقراطية من جهة ثانية، فالتيار الإسلامي كغيره من التيارات فيه المستنير والمعتدل والمتشدد، وفيه العنيف والمسالم، وفيه الديمقراطي والشمولي. والولايات المتحدة الأمريكية نفسها قد أدركت ذلك، وتعاملت سواء في أفغانستان أو العراق، مع الأحزاب الإسلامية المعتدلة، بل إن هذه الأحزاب تشكل القاعدة السياسية الرئيسية للمشروع السياسي المدعوم أمريكيا.
8-إن وضع الشيخ القرضاوي في سلة واحدة مع أسامة بن لادن، فيه تجن حقيقي على الموضوعية والعقلانية، فالشيخ القرضاوي هو صاحب الفتوى الشهيرة (انظر صفحة الفتاوى في موقع إسلام أونلاين) الذي يجعل الديمقراطية بمثابة النظام السياسي الحقيقي في الإسلام، مثلما يجعلها الترجمة المعاصرة لنظرية الشورى في الإسلام.
9-والأمر نفسه يمكن أن يقال عن الشيخ راشد الغنوشي، الذي وإن كنت شخصيا لا اتفق معه في كثير من القرارات السياسية التي اتخذها باعتباره زعيم حزب إسلامي، إلا أن النزاهة والشجاعة والأمانة كلها تقتضي القول بأن جزءا كبيرا من عمر هذا الرجل، قد أفناه باعتباره مفكرا إسلاميا معاصرا، في التأصيل للديمقراطية داخل الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وترسيخها باعتبارها مشروع الاتجاه الإسلامي الرئيسي.
10-وأما النص الذي أشير إليه ضمنا في بيان الليبراليين العرب، فليس إلا نصا مجتزأ ومبتسرا ومفصولا عن سياقه، من كتاب الشيخ الغنوشي عن الحريات العامة في الدولة الإسلامية، ذلك أن القارئ الموضوعي لهذا الكتاب سيدرك أن خلاصته ليست سوى دعوة الشيخ الإسلاميين إلى الاقتناع بأن الدولة الإسلامية ليست في تطبيقها سوى الدولة الديمقراطية النابعة عن مجتمع مسلم.
11-وإن المتابع للشأن التونسي، يعرف مسبقا أن خصومة الاستاذ الأخضر مع التيار الإسلامي في تونس هي خصومة فكرية وسياسية بالدرجة الأولى، جعلت من الاستاذ الأخضر متخصصا في مهاجمة التيار الإسلامي وممارسات وأفكار الإسلاميين، دون أن يبدر عنه موقف واحد يدين الديكتاتورية أو يهاجم خروقات حقوق الإنسان.
12-وللموضوعية والنزاهة أقول، أن الحركة الإسلامية في تونس قد واجهت باستمرار الكثير من النقد والهجوم والتشنيع من قبل حركات وتيارات إسلامية في دول عربية وإسلامية أخرى، جراء موقفها الداعي إلى تبني الديمقراطية مشروعا سياسيا يكفل لجميع التيارات والمواطنين الحرية في التعبير عن الرأي والانتماء السياسي.
13-وقد كان الإسلاميون في تونس بشكل عام ضد العنف والإرهاب، ودعاة عمل سياسي سلمي، وقد جاء اتهامهم بالعنف في إطار خصومة سياسية معروفة، كان محركها الأساسي الرغبة في إزاحتهم عن الحياة السياسية، تقديرا من الراغبين في ذلك، أنهم قوة لا يمكن تهميشها.
14-وفيما يتعلق بنقطة العنف والإرهاب هذه بالذات، فإن الوقائع تشير إلى أن الشيخ راشد الغنوشي قد ربح كافة القضايا التي رفعها أمام القضاء البريطاني- المشهور بعدله واستقلاليته- خلال السنوات الأخيرة، ضد جهات ووسائل إعلام اتهمته شخصيا أو اتهمت حركته، بالعنف والإرهاب، فالثابت من خلال كتابات الشيخ وبيانات حركته أن الرجل يدعو بإخلاص إلى الديمقراطية، مثلما تسعى حركته جاهدة إلى نيل الاعتراف القانوني بها للعمل كحزب سياسي ديمقراطي.
15-وعموما فإن تبني الليبراليين العرب لنظرية "الإقصاء" و"الاستئصال" التي عرف بها بعض غلاة اليسار، في التعامل مع التيار الإسلامي، لا يمكن أن تكون مجدية للحفاظ على مصداقية وحظوظ التيار الليبرالي العربي، الذي يفترض أنه يعمل في المقام الأول على منازعة الديكتاتورية ونصرة الديمقراطية وحقوق الإنسان. إنني شخصيا – وأنا اعتبر نفسي ليبراليا حتى النخاع- أدعو إلى تبني نظرية أخرى مخالفة تماما، يمكن تسميتها بنظرية "الترويض الديمقراطي" بدل الإستئصال، والاستيعاب الديمقراطي بدل الإقصاء.
16-إن العنف والإرهاب ظاهرة قديمة لم تتورط فيها بعض الجماعات الإسلامية فحسب، بل تورطت فيها سائر الجماعات، يسارية ويمينية وقومية، كما أن هذه الظاهرة ليست حكرا على المسلمين، بل مارسها ولا يزال المسيحيون واليهود والهندوس وغيرهم، فبؤر العنف والإرهاب موزعة على مختلف أنحاء العالم، والحديث عن مكافحة الإرهاب يجب أن يعتمد مقاربات شاملة وعامة، لا مقاربات خاصة وعنصرية أحيانا.
17-وأخيرا فإني أرجو مجددا أن لا يساهم كتاب البيان أو الموقعون عليه، في دفع التيار الليبرالي العربي إلى خصومات ومعارك، مجالها الأساسي ميادين السجال الفكري والايديولوجي، والتركيز في المقابل على معركة الأمة العربية الرئيسية، والعمل على المساهمة في تعبئة كافة القدرات والإمكانيات المتاحة، داخليا وخارجيا لربحها. إن الفضاء الليبرالي المنشود عربيا، يفترض به أن يسع كافة تيارات الأمة، وفي مقدمتها التيار الإسلامي، ويشجعها جميعا على بناء علاقات سلمية، تقوم على قناعة بأن الحرية للجميع، والسلطة حق لمن يحرز أصواتا أكثر في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة.

كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي – لاهاي

مقالات ذات صلة ببيان الليبراليين العرب:

نص البيان الذي وجهه اليبراليون العرب إلى الأمم المتحدة

*

د. احسان الطرابلسي
ردٌ على خالد شوكات
الغنوشية المتستّرة بثياب الليبرالية تفضحُ نفسها!

*

محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

البيان الفضيحة!

آل الشيخ يرد على منتقديه: اعترفوا بالخطأ

بل كله عيب أيها السيد المصري!

*

إبراهيم المصري
ليس عيباً.. وإنما ضرورة

حمل بطيختين بيدٍ واحدة

د. رجاء بن سلامة
لماذا وقّعت البيان المجرّم لفتاوى الإرهاب

*


محمّد عبد المطّلب الهوني
فضيحة آل الشّيخ مردودة عليه

*

د. شاكر النابلسي

لا أب ولا أبوات لـ البيان الأممي ضد الارهاب!

لماذا كان البيان الأممي ضد الارهاب ولماذا جاء الآن؟

*

نصر المجالي
بيان فيه تحريض وتنوير

*

علي ابراهيم محمد
ما حاجتنا لبيان متوازن

*

د. إحسان الطرابلسي
بيان الليبراليين الجُدد وامتحان الصدقية

*

إنشقاق في معسكر الليبراليين العرب