"إيلاف" في الشارع المنكوب غافياً في الأشرفية
وسط ركام الانفجار: كلنا ميليس

إقرأ أيضًا
*قتلى وجرحى في تفجير جديد في لبنان
*مظاهرةبنيويورك تطالب باستقالة لحود
*تكريم قارب غرين بيس أنا في بيروت
*لحود الى نيويورك رغم الجدل القائم
*لحود يريد ضمانات أميركية
*لبنان: انفجار قنبلة وضبط اخرى
*أطول تحقيق مع جنرالات لبنان
*الحال الصحية للجنرالات الاربعة تتفاعل
*عهد لحود ونظام الأسد في دائرة الخطر
*مصادر لإيلاف: لحود أمام ميليس قريبًا
*مكتب لحود يهاجم إيلاف

إيلي الحاج من بيروت: كان سكان ما كانت تعرف بـ"الشرقية" في لبنان خلال الحرب أي المناطق ذات الغالبية المسيحية في بيروت وشمالها ساحلاً وجبلاً يعتقدون أن حقبة التفجيرات المتنقلة ليلاً في أحيائهم والتي بدأت بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري قد انقضت إلى غير رجعة، لكن انفجاراً هز منطقة فسوح في الأشرفية قبل منتصف ليل أمس بخمس دقائق، أزال اطمئنانهم الهش وأوقع بينهم قتيلاً وواحداً وعشرين جريحاً على الأقلملأوا غرف العمليات والطوارىء في المستشفيين المجاورين، الجعيتاوي للراهبات المارونيات والقديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس.

الوصول إلى مكان الانفجار يستلزم السير على زجاج محطم، وتلفح الآتي إليه هرولة بعد دقائق روائح إحتراق مواد نفطية ودخان أسود في ليل الشارع السكني المنكوب فيما كان مستسلماً لنومه، والذي لم تنقطع فيه الكهرباء رغم سيلان الدم فيه خارج العروق، والمياه التي تجمعت بركاً من القساطل المفزورة.

والمسافة طويلة بين المكان الذي يمكن أن يجد فيه المهرول مساحة لركن سيارته، وبين السيارات الثلاث التي تفحمت مركونة أمام مبنى تشوهت واجهته. وطول الطريق كانت جموع تحتشد وتسرع الخطى في اتجاه واحد . معظمهم حملوا كاميرات ديجيتال، أو أقله هواتف نقالة تحوي كاميرات، ومعظمهم أيضاً كانوا يتحدثون على الهواتف ، إما للطمأنة إلى نجاتهم وإما لرواية ما يرون ، فليس كل يوم تقع انفجارات في "الشرقية" بتعبير الحرب سابقاً ، بل أنها عادة شهرية. وكثيرات أتين أيضاً بثياب السهرة وكن يعلقن لمحدثيهن هاتفياً على الانفجار بفرنسية الأشرفية البورجوازية التي تسخر من الفرنسيين لأنهم لا يتقنون لغتهم. يذكرن السامع بمحاولة الكاتب الصحافي الشهيد سمير قصير محاكاة هذه المنطقة بعد الحرب بمجلة سياسية رائدة صحافة وأناقة اضطر إلى إقفالها على خسارات، يائساً من تحول البورجوازيين المتحدثين بالفرنسية من اليمين إلى اليسار. سمير اليساري الجميل ظل يحب الأشرفية اليمينية وقتل فيها بعبوة تحت سيارته ذات صباح 2 حزيران/يونيو.

حشد في مقابل حشد
كان الأغرب من تدافع الناس إلى مكان الانفجار تعاظم عدد عناصر الجيش وقوى الأمن والإسعاف والإطفاء والدفاع المدني والمحققين، ناهزوا المئات وكانوا حشداً في مقابل حشد وضع أشرطة صفراء طوقت الشارع من كل ناحية ، كما في موقع جريمة بفيلم أميركي، ومنع المتجمهرين سواء الفضوليين ، أو الذين تقع منازلهم ومتاجرهم المبقورة الأبواب والواجهات في داخل "الحزام الأمني" من الإقتراب أكثر. وكانت صفارات سيارات تزعق بين حين وآخر ناقلة جريحاً أو مصاباً بصدمة نتيجة قوة الإنفجار. وذكر ل "إيلاف" مسؤول في الصليب الأحمر كان في الموقع أن معظم الجرحى ال23 تشظوا بالزجاج المتناثر.

إلا أن الثمانيني هايك سوبانيان كان نصيبه أسوأ . لم يمهله القتلة ليفارق الحياة طبيعياً متعَباً بشيخوخته ، فقد هوت عليه إحدى شرفات المبنى. المسكين كان يهم بغلق مطعمه المتواضع ، فتهشم وقضى على الفور.

ومن بُعد عشرات الأمتار بدا المشهد غرائبياً إثر توقف زعيق سيارات الإسعاف التي نقلت المصابين. حلّ صمت غريب على التقاطع الشبيه بالساحة حيث تجمع مئات الشبان والصبايا، لكأنهم جاؤوا يكملون احتفالاً بصرياً خرق نمط حياتهم الروتيني . ساعد في تجمهرهم وتأخرهم على هذه الحال أن السبت والأحد عطلة الأسبوع في لبنان والجمعة للسهر. الصور الأولى كانت مأسوية أما ما تلاها فكان الفضول ولا شيء غيره . في أي حال لم يكن الانفجار هائلاً، نقيض ما أجمعت عليه وكالات الأنباء . ورغم أن دويه كان قوياً ووصل إلى أنحاء بعيدة بسبب انحصار الشارع وهدوء ليل بيروت المقمر في ذلك الوقت ، فإنه لا يقارن بعنف الانفجارات السبعة السابقة [ في مناطق نيوجديدة (19 آذار/مارس) والكسليك (23 منه) وسد البوشرية(26 منه) وبرمانا ( الأول من نيسان/ أبريل) وجونية ( 6 أيار/ مايو) وشارع مونو في الأشرفية( 22تموز / يوليو) والزلقا( 22آب/ أغسطس) ].

ولكن بدا واضحاً أن الأسلوب نفسه لم يتغير. مجهولون انتقوا الحي ووضعوا تحت جنح الظلام وإحدى السيارات المتوقفة حقيبة جلدية تحوي متفجرة زنة 15 أو 20 كيلوغراماً من ال "تي. أن. تي" الشديدة الوقع موصولة بساعة توقيت ولاذوا بالفرار. في عمليات أخرى كانوا يتقصدون وضعها في مجمعات تجارية أوصناعية ليتحاشوا إيقاع إصابات بشرية ولكن هذه المرة لا بأس ببعض القتلى والجرحى لتوضيح الرسالة.

من البطل؟ من الخائن؟
والرسالة كما فهمها أهل الأشرفية الذين تسنى ل"إيلاف" سؤالهم في المكان أن النظام السوري وأعوانه من "النظام الأمني" اللبناني السابق لا يرون مصلحة لهم في استمرار الهدوء على أراضي البلد الصغير المجاور، بل يريدون – ببساطة- تدميره وإحراقه إما للإنتقام منه بعد إرغامهم على الخروج منه، وإما للعودة إليه بذريعة أن الأمن يضطرب في غيابهم . أما التركيز على وضع المتفجرات في المناطق التي تقطنهاغالبية مسيحية فالغاية الجلية منه حقن المشاعر الطائفية في لبنان.

ويرى أصحاب هذا الرأي أن السوريين يوعزون إلى مؤيديهم بتوتير الأجواء السياسية والشعبية بين وقت وآخر، على غرار ما فعلت أمس مجموعة سمت نفسها "أصدقاء حبيب الشرتوني ونبيل العلم" ، والإثنان من الحزب السوري القومي الاجتماعي، الأول قتل في الاشرفية بمتفجرة هائلة القوة رمزاً عند المسيحيين في لبنان هو رئيس الجمهورية الراحل بشير الجميل ، عام 1982 ، والآخرأصدر إليه أمراً حزبياً بالتنفيذ. بعد جماعة "حراس الأرز" بيومين ذكّر أصدقاء هذين الرجلين المطلوبَين اللبنانيين بأنهم لم يتفقوا بعد على من هو البطل في تاريخهم الحديث ومن الخائن .

ولو وقع انفجار منتصف ليل أمس في ساحة ساسين وسط الأشرفية بدل شارع فسوح لكانت الإصابات كارثية. ففي تلك الأثناء كان نجل بشير، نديم الجميّل، الذي انتخبت والدته صولانج نائبة عن بيروت في البرلمان بالتحالف مع زعيم "تيار المستقبل" سعد الحريري وعلى لائحته، يتقدم تجمعاً ضم عشرات الشبان من مختلف التوجهات السياسية للمسيحيين ، عونيين وقواتيين وكتائبيين، يضيئون الشموع أمام نصب للرئيس الراحل وينشدون النشيد الوطني ويعاهدون على إطلاق حملة بدءاً من اليوم لتوقيف قتلة بشير الذين لا يزالون طلقاء ، ولا سيما الشرتوني والعلم، ولملاحقة من دعوا في المؤتمر الصحافي إلى تكريمهم، وهم: الدكتور علي حمية من الحزب السوري القومي الاجتماعي، الصحافي جهاد نافع وهو قومي سوري يعمل في جريدة "الديار" لصاحبها شارل أيوب [ المكشوفة السرية المصرفية عن حساباته في قضية اغتيال الرئيس الحريري ]، رئيس نقابة مزارعي التبغ والتنباك في الشمال عبد الحميد صقر من حزب البعث العربي الاشتراكي، والشيخ عبد السلام الحراش منسق "تجمع علماء عكار" القريب من الاستخبارات السورية. ودعا أحد حضور المؤتمر قبل منع الصحافيين فيه من طرح الأسئلة إلى قتل قائد" تيار القوات اللبنانية" سمير جعجع.هؤلاء أصدر مدعي عام التمييز سعيد ميرزا استنابات قضائية عند الفجر لمعرفة ما قالوا في مؤتمرهم ليقرر القضاء ملاحقتهم أو تركهم . هذا الخبر لم يكن قد شاع عندما قال نديم بشير الجميّل ل "إيلاف" قرب مكان الانفجار أنه ورفاقه يطالبونبأن تعامل السلطات أصدقاء قاتلي والده كما عاملت أعضاء قيادة "حزب حراس الأرز" الذين أوقفوا قبل يومين بتهمة الدعوة إلى قتل الفلسطينيين في لبنان. علماً أن أحدهم، الصحافي حبيب يونس يتهم صحافياً آخر هو مدير تحرير جريدة "السفير" جوزف سماحة بأنه دس في خبر مؤتمر "الحراس" الصحافي عبارة "على كل فلسطيني أن يقتل فلسطينياً" ونشرها بعنوان عريض على الصفحة الأولى من الصحيفة التي يديرها بدافع سياسي لا مهني وللإساءة وتشويه السمعة لا غير، بدليل أن أي صحيفة أو وسيلة إعلام أخرى باستثناء "السفير" لم تنشرها ، وينفي يونس أن يكون أحد من المشاركين في المؤتمر قد قالها أو أن تكون وردت في أسطوانة مدمجة عن الحزب وزعت على الحضور، علماً أن كل التحقيق في القضية يدورعلى هذه العبارة .

وكان سماحة نشر مقالاً في "السفير" تناول فيه يونس بتهمة العمالة لإسرائيل لدى توقيفه في إطار مااصطلح على تسميته "توقيفات 7 آب" عام 2001 لمعارضي "النظام الأمني" وحكم الوصاية السورية على لبنان. لكنه ما لبث أن نشر بعد أيام إعتذاراً تراجع فيه عما بدر منه حيال يونس، وعلل اعتذاره ذاك بدوافع "مهنية وأخلاقية" كما كتب.وفي مقال أخير له عن "ثورة الأرز وحراس الأرز" استنتج أن تحرك 14 آذار الشعبي الفائت قاد إلى المؤتمر الصحافي لمسؤولي"الحراس" الثلاثة المأخوذين بأفكار الشاعر سعيد عقل، بمعنى أنهكان يجب حسب رأيه أن يبقى السوريون في لبنان لمنعهم من عقدمؤتمرهم الصحافي . كما صوّر حزبهم عظيم التأثير في بيئته، يسيير خلفه نصف اللبنانيين على الأقل،في حين يعرف أي لبناني أنه كان يحتاج إلى ميكروسكوب ليلحظ وجوده وأثره، في الحرب كما في السلم . ولاقى سماحةفي المنطق نفسه زميله كاتب التحليل السياسي في "السفير"ابرهيم الأمين في مقابلة تلفزيونية ليل أمس عاهد فيها المشاهدين على اعتزال الصحافة إذا ما جرّمت التحقيقات في اغتيال الحريري المدير العام السابق للأمن العام اللواء الموقوف جميل السيد.

ومن المقرر أن يصدر قاضي التحقيق مختار سعد اليوم قراره بإصدار مذكرات توقيف في حق ثلاثي "الحراس" أوإخلاء سبيلهم.

رواية القبض على موزعي تفجيرات
في أي حال تبقى التفجيرات الكلامية من هنا وهناك نتيجة رواسب الحرب هينة مقارنة بالقاتلة فعلاً، والتي ساد اعتقاد بعد متفجرة الزلقا في 22 آب/ أغسطس الماضي أنها لن تتكرر، باعتبار أن مرتكبيها انكشفوا وتم القبض على ثلاثة منهم أدلوا باعترافات كاملة .

وفي التفاصيل التي لم تنشرها الصحافة اللبنانية نزولاً عند طلب تعتيم رسمي، أن بعض سكان شارع ضيق ومقفل تحوطه أشجار الليمون في الزلقا لاحظوا توقف سيارة رباعية الدفع فيه ونزول ثلاثة رجال منها، أحدهم كان يحمل حقيبة جلد، وتوجههم نحو فندق " لابرومناد" الذي يبعد مئات الأمتار عنهم.

فساورت السكان الظنون . وبعد ثلث ساعة عاد الرجال الثلاثة ولم يكن الرجل يحمل حقيبته ، وقبيل وصولهم إلى السيارة دوى الانفجار فارتبكوا ارتباكا شديدا وأجروا على عجل اتصالاً من هاتف نقال ثم ارتدوا على أعقابهم وتوجهوا إلى مكان الانفجار لتقديم المساعدة في عمليات الانقاذ ، لكن عيون السكان ظلت تلاحقهم ولاحظوا أن رفاقاً لهم وصلوا في سيارات مشابهة وانضمواإليهم . وما أن وصل ضابط في الشرطة القضائية ومعه عناصر يحملون آلات تصوير طلبوا منه أن يصور المشبوهين الثلاثة بدون أن يتنبهوا إلى ذلك . وفي اليوم التالي تبين أنهم تابعون لقائد الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان الموقوف في قضية اغتيال الرئيس الحريري ، فأوقفوا وأخضعوا لتحقيق كامل . وقيل أن حمدان الذي أوقف لاحقاً حاول عرقلة توقيفهم.

يسرد سكان الزلقا روايات عديدة عن تلك الليلة، يتطابق فيهاأن أربعة رجال في سيارة "ب أم في" ذات زجاج أسود استخباراتي توقفت أمام مقهيين كانا مكتظين بروادهما قرب مكان الانفجار بنحو ثلث ساعة، وتحدثوا بصوت عال مع رجلي شرطة تابعين للبلدية، سائلين عن رجال مشبوهين ينوون وضع متفجرة في المكان، وقائلين أنهم يبحثون عنهم ولديهم معلومات أكيدة، فخاف رجلا الشرطة وأخذا يتصلان لاسلكياً بالمسؤولين عنهما ويخبرانهم بمايجري ، وسمع الرواد الأحاديث الدائرة فغادروا المقهيين وإلا لكانت وقعت فيهما مجزرة . ويؤكد السكان أن رجال السيارة السوداء الزجاج كانوا رفاق الرجال الثلاثة الذين أوقفوا لاحقاً، وتصرفوا على هذا النحو لتفادي وقائع خسائر بشرية .

تُرى متفجرة منتصف الليل في الأشرفية لتبرئة من تتجه إليهم أصابع الإتهام بارتكاب التفجيرات ؟ أم أن هناك فعلاً أكثر من جهاز وفريق وجهة تلعب في الساحة لأسباب سياسية – انتخابية يراهاالبصير ويفهمها؟ وإذا كانت المجموعة التي يشتبه بها التحقيق الدولي والمحلي هي التي اغتالت الحريري فمن حاول اغتيال صهر الرئيس إميل لحود الوزير الياس المر؟
كلنا في لبنان ميليس عندما يدوي إنفجار!